التصنيع المستدام والمعادن الخضراء

الدكتورة جميلة مرابط

متخصصة في شؤون الاستراتيجيات

 وسياسات الطاقة والاستدامة البيئية رئيسة مجلس الباحثات المتعدد التخصصات   

التصنيع المستدام والمعادن الخضراء: رهانات استراتيجية لأفريقيا ما بعد 2030


تشهد الساحة العالمية تحولًا جذريًا في البُنى الاقتصادية والطاقية، مدفوعًا بالتغيرات المناخية وتسارع وتيرة الانتقال نحو اقتصاد منخفض الكربون. في قلب هذا التحول تبرز المعادن الخضراء مثل الكوبالت، الليثيوم، النيكل، والمنغنيز كموارد استراتيجية لا غنى عنها لتطوير البطاريات السيارات الكهربائية، وأنظمة الطاقة المتجددة. في هذا السياق، تجد إفريقيا نفسها في موقع محوري، ليس فقط كمصدر غني بهذه الموارد، بل كفاعل مرشح بقوة لإعادة تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي الجديد.

ورغم أهمية هذا الرصيد الجيولوجي الاستراتيجي، لا تزال معظم الدول الإفريقية تعاني من نموذج اقتصادي يرتكز على تصدير الموارد الخام، ما يعيق فرص التصنيع المحلي ويكرس التبعية الاقتصادية. أمام هذا الواقع، تطرح المرحلة القادمة، ما بعد 2030، تحديات جسيمة ولكنها في الآن ذاته تتيح فرصًا استراتيجية لإعادة صياغة نموذج تنموي افريقي قائم على التصنيع المستدام، ومرتبط بإحكام العدالة البيئية والاجتماعية.

وبالتالي نتساءل عن كيف يمكن لإفريقيا أن تتحول من مجرد خزّان للمعادن الخضراء إلى فاعل استراتيجي في سلاسل القيمة الصناعية المستدامة؟ وما هي السياسات، والتوجهات الاستراتيجية المطلوبة لبناء نموذج تصنيع يرتكز على القيمة المضافة المحلية، ويخدم أهداف التنمية المستدامة لما بعد 2030؟


 - 1 - المفارقة التنموية الافريقية : غنى الموارد وفقر الشعوب

 تُعد القارة الإفريقية من أغنى مناطق العالم بالمعادن الاستراتيجية اللازمة للتحول الطاقي العالمي، إذ تمتلك احتياطيات هائلة من الكوبالت (أكثر من 60% من الإنتاج العالمي يأتي من جمهورية الكونغو الديمقراطية)، إضافة إلى موارد معتبرة من الليثيوم (زيمبابوي، ناميبيا، مالي)، والنيكل والمنغنيز (جنوب إفريقيا، مدغشقر، بوركينا فاسو). ومع ذلك، فإن استغلال هذه الثروات يتم غالبًا في إطار علاقات تجارية غير متكافئة، تُصدّر فيها المعادن في حالتها الخام نحو الأسواق العالمية، مما يُفوت على الدول الإفريقية فرصة تحقيق التنمية الصناعية والاقتصادية. وأضف إلى ذلك، الموقع الجغرافي لإفريقيا يمنحها كذلك أفضلية في التصدير نحو أوروبا وآسيا، فضلًا عن توافر يد عاملة شابة وثروات طبيعية غير مستغلة بالكامل.

لكن هذه المزايا لا تُترجم بعد إلى قوي في سلاسل القيمة العالمية الخاصة بالصناعات التكنولوجية والطاقية. وهدا راجع إلى: 

  • غياب سياسات صناعية مستدامة مما يؤدي إلى استمرار ما يسمى بـ"لعنة الموارد"، حيث يُنتج الاستغلال المفرط وغير المنظم للمعادن آثارًا بيئية واجتماعية سلبية: تدهور الأراضي، تلوث المياه، استغلال الأطفال، وانتشار النزاعات المسلحة حول مناطق التعدين.
  •   افتقار معظم الدول الإفريقية إلى البنية التحتية التكنولوجية والتصنيعية التي تسمح لها بتحويل المعادن محليًا. ففي الكونغو، على سبيل المثال، يُصدّر أكثر من 95% من الكوبالت في صورته الأولية إلى الصين دون أي معالجة، رغم إمكانية تصنيع بطاريات محلية ذات قيمة مضافة عالية.
  •  المنافسة الحادة بين قوى دولية (الصين، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة) للاستحواذ على المعادن الاستراتيجية، عبر اتفاقيات استثمار أو استغلال تُبرم غالبًا في غياب الشفافية والمساءلة، ما يكرّس التبعية ويُضعف السيادة الاقتصادية.  

    -2- التصنيع المستدام  رهان تنموي حاسم ومفتاح الانتقال الصناعي
  •  يمثل التصنيع المستدام أحد المفاتيح الأساسية لكسر الحلقة المفرغة للتبعية الاقتصادية في إفريقيا، من خلال تحويل المواد الخام إلى منتجات ذات قيمة مضافة داخل القارة. هذا التحول لا يُعد خيارًا تنمويًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق السيادة الصناعية والعدالة المناخية. فمن دون قدرات تحويل وتصنيع محلي، تظل إفريقيا رهينة للسوق العالمية وأسعار المواد الأولية.
  •  لهدا يجب بناء سلاسل قيمة محلية في مجالات مثل البطاريات، الإلكترونيات، والطاقات المتجددة، حيث يمكن أن يعزز من قدرة القارة على التحكم بمستقبلها الصناعي. والمساهم في خلق فرص شغل جديدة ونقل التكنولوجيا وتطوير المهارات، ما يفتح آفاقًا أمام الشباب الإفريقي ويحد من الهجرة. كما يمكّن التصنيع المستدام من تقليص البصمة الكربونية ويعزز استخدام الطاقات النظيفة، بما ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا الهدفين 9 و12.
  • ولكي تُترجم الطموحات إلى واقع ستلعب السياسات العمومية دورًا حاسمًا في تحفيز التصنيع المستدام وضمان العائدات المعدنية.  وأيضا أطر قانونية وتنظيمية واضحة ومحدثة من خلال:
  • مراجعة قوانين التعدين بما يشمل إدماج معايير بيئية صارمة.
  •  فرض نسب تصنيع محلي في عقود الاستثمار.
  •  تعزيز الشفافية والحوكمة
  •  الانخراط في مبادرات مثل EITI.
  •  إنشاء آليات مراقبة مستقلة للعقود والاستخراج.

    -3- نماذج رائدة في التصنيع المستدام من أجل تكامل الإقليمي 

يبرز المغرب كنموذج أفريقي رائد يُعيد تعريف دور الموارد الطبيعية كقاطرة للتنمية المستدامة والابتكار الصناعي العادل.  حيث يعتبر فاعلًا استراتيجيًا في مجال المعادن الفوسفاطية، حيث يحتل الصدارة عالميًا من حيث الاحتياطي والتصدير، ويقود مسارًا طموحًا نحو التصنيع المستدام عبر مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط (OCP). هذا المسار يتجاوز مجرد الاستغلال الصناعي للثروات، ليُجسّد رؤية متقدمة تُراعي حماية البيئة، وتحسين النجاعة الطاقية، وتثمين الموارد المائية من خلال تقنيات التحلية وإعادة التدوير. وتتماشى هذه الرؤية مع مفهوم "المعادن الخضراء"، التي تُعد ركيزة للانتقال الطاقي العالمي، حيث يُسهم المغرب ليس فقط في الأمن الغذائي من خلال إنتاج الأسمدة المستدامة، بل أيضًا في دعم الاقتصادات الإفريقية الناشئة لتحقيق أهداف أجندة إفريقيا 2063، من خلال تعزيز السيادة الصناعية، وتمكين البحث العلمي، وتشجيع الشراكات جنوب-جنوب. وفي أفق ما بعد 2030،

 رواندا في تصنيع الأجهزة الإلكترونية محليًا، أو جنوب إفريقيا في تطوير صناعات متقدمة قائمة على النيكل والمنغنيز. ونشير في هذا الإطار الرؤية الإفريقية للتعدين( Africa Mining Vision ) وثيقة استراتيجية أطلقها الاتحاد الإفريقي سنة 2009. تدعو إلى تنمية سلاسل القيمة وتعزيز البنية التحتية الصناعية. تشجع التكامل الإقليمي واستخدام الموارد لخدمة التعليم والصحة والبنية التحتية. وآيضا منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (ZLECAF) كإطار مؤسساتي يمكن أن يُعزز من سلاسل القيمة الإقليمية، ويُسرّع من تكامل الأسواق والقدرات التصنيعية. ولا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة دون إشراك النساء في جميع مراحل سلاسل القيمة المعدنية، من الحوكمة إلى ريادة الأعمال. فتمكين المرأة في هذا المجال لا يقتصر على العدالة الاجتماعية، بل يشكل ضمانة لاقتصاد أكثر شمولًا ومناعة. 

ختاما : 

إن رهان التصنيع المستدام في إفريقيا، خصوصًا في ما يتعلق بالمعادن الخضراء، لا يتعلق فقط بالانتقال الاقتصادي، بل يشكل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل علاقات القوة والمعرفة على الصعيد العالمي. فالانتقال من موقع المورّد الخام إلى موقع الشريك الصناعي يتطلب إرادة سياسية قوية، واستراتيجيات إقليمية متكاملة، واستثمارًا في الإنسان، خاصة الشباب والنساء، باعتبارهم رافعة أساسية لتحقيق تحول عادل وشامل. إن أفريقيا ما بعد 2030 مطالبة بصياغة نموذج جديد، يتجاوز منطق التبعية، ويضع القارة في صلب الثورة الصناعية الرابعة، بثقة، وبصوت إفريقي مستقل.