نسبةً لتراجيديات شكسبير الكبرى ( ماكبث – عطيل – هاملت ) التي وقع أبطالها في فعل القتل و لاقوا بعدها الكثير من التراجيديا نجد ان الملك لير الأقل خطأ فهو لم يقتل بل وزع أملاكه بنية حسنة و لكنه راهن على أهم شيء و هو الحب و قد لقي العقوبة الأكبر بين التراجيديات و هي الموت مع كل شيء بجملة قالها عند الموت ( إني لأعرف متى يكون الإنسان حياً وقت يكون ميتاً ).
حيث تكونَ " King Lear " فيلم بريطاني أمريكي لعام 2018، من إخراج ريتشارد يير. الفيلم مقتبس من مسرحية تحمل نفس العنوان من تأليف ويليام شكسبير، تم اختزالها لمدة 115 دقيقة فقط، وبثها على بي بي سي 2 في 28 مايو 2018 .الفيلم من بطولة أنتوني هوبكنز، تدور أحداث الفيلم في عالم بديل، القرن الحادي والعشرين، ولندن ذات طابع عسكري للغاية ويصور المأساة التي تلت ذلك عندما أعلن الملك لير عن نهاية حكمه وانقسام مملكته بين ثلاثة بنات.
يأتي الفيلم بمعالجة عصرية جديدة لقصة قديمة تختلف عن كل مما سبق فالملك لير الذي تقرأه بمسرحية ورقية و تتعاطف معه كضحية يبدو هنا حاكم طاغية تكرهه و تشعر بأنه الجلاد و الضحية معاً, يتجسد لير بكل ما فيه كل حاكم ديكتاتوري بأي عصر كان و هنا سر خلود شكسبير بأن نصه لكل حين .
المشاهد : نرى في لقطة توزيع الميراث داخل غرفة أن المخرج ريتشارد لم ينسى ان يضع تمثال لانتوني هوبكنز في هذا المشهد على انه الملك و في ذلك العصر القديم بقدم المسرحية لم يكن للملوك تماثيل كهذه بل هي اسقاط على القرن العشرين و على الحكام العسكريين و الطغاة اللذين يعتبرون وجود تماثيلهم ضرورة .
و عند مشهد تواجد الملك لير في قصر ابنته الكبرى تبدو الكاميرا هنا متحركة بشكل سريع فعندما تأخذ منخفضة ليبدو لير قويا" فجأة تتحول الى ابنته التي تصبح هي القوية و المسيطرة و تبدأ بإصدار اوامرها مع صدمة تعتري المشهد العام . و يبدو أن المشهد الأهم خروج الملك لير من قصر ريغان غاضبا" حيث تتمشى الكاميرا هنا و مشهدها مع الطبيعة الغاضبة و الحالة النفسية الغاضبة للملك فتخبرنا دون نطق اي كلمة اللقطة الكاملة للمشهد و تمازج الطبيعة مع النفس البشرية.
و لقطة اغلاق الباب التي تنبئنا بإغلاق كل سبل التواصل الاسري و الملكي. و من المشاهد المؤثرة عند اكتشاف لير للرعية تحت المطر : مشهد فني مهم حيث انه يرى المكان الذي تكون فيه الناس الفقراء لأول مرة و يبدأ يكلم نفسه أو يكلمهم بأنه لم يكن يبصرهم و الآن يكتشفهم . لقطة مهمة فلا وضوح لمعالم الرعايا . نلاحظ في المشهد وجود الخيم للوقاية من الماء و لكن لا نشاهد الرعية التي يكلمها لير و كأن الرعية عند الطغاة و العصور لا وجود لها على ارض الواقع و لا اعتبار إنسانيتها .
تفسيريا" : في تلك اللحظة يدرك لير انه كان مخطأً و انه لم يكتشف الحياة على حقيقتها حتى انه لم يكن يعرف نفسه الا عندما فقد كل شيء .و جردته الحياة من كل المظاهر جينها فقط اصبح انساناً ثم بدأ بتكوين افكار و قيم اخلاقية جديدة حين شعلا بمعاناة الرعية البائسة . تتصاعد المشهدية للوصول لمشهد فقأ العينيين الذي تم تأديته ببرود و دون احاسيس يخبر ان كل شيء كالحب و الابوة قد ذهب فلا داعي لتواجد البصيرة التي كانت تسعى للإيجاد الحل ,يصور المشهد و كأنهم يتناولون العشاء لا أكثر دون مؤثرات او آهات لكن موسيقى صامتة و لقطة ثابتة نوعا" تنتهي بذلك الظلام الذي يتبع حالة البرود .
تتعاطى المشاعر فينا مجدداً بمشهد التقاء الأب بابنته : تصور لير على كرسيه بأكمل بهائه و عظمته حيث نستشعر رجوعه لملكيته عندما استشعر رجوع ابنته و حبها له ثم يمشيان و يصور هنا لحظة من النور الابيض و الشاشة المضيئة التي تعبر عن اليقظة و النور المبصر حين الالتقاء بالحب الحقيقي . مشهد الحرب من أقوى المشاهد التي تتحرك بها اكثر من كاميرا تصور حرب و كأننا على شاشة أخبار بتحريك الكادر و واقعية اللقطة .
مشهد الاب و الابنة في السجن : يتبين لنا الاب و ابنته على انهم منتصرين و ليسوا مهزومين كما جاء في النص فهنا يبين المشهد و زوايا الكاميرا ان النصر ليس في الحرب و العساكر بل في نفسية الانسان و التقاءه بالحب و هذا ما يكمله لير بكلامه .
مشهد صراع الاخوين من المشاهد الذي تنتقل فيه الكاميرا على كل الوجوه و يكون هو مشهد الصراع في الفيلم و ينتهي بانتصار الخير و هو أرغار الفائز . مشهد الموت : بدأ التساقط حتى الانتهاء في كل صورة و اخذ الكاميرا للقطة ثابتة للشاب المتعلم المحب الذي لم يترك اباها أرغار بشكل ثابت يعطي فكرة الاستمرارية و ان الخير باق و مشهد موت العائلة المتنازعة ان ليس هناك من يكسب دون حب .
سينوغرافيا : الصورة البصرية تتجسد في الفيلم بين طريقة التصوير المسرحية من خلال الانتقال بين الشخصيات و جعل الشخصية تحاكي الكاميرا و الجمهور كما في المسرح و كسر الجدار الرابع بذلك و بين اللغة السينمائية في تتبع كل تفصيل من تفاصيل المشهد فيعبر المشهد المصور اكثر بكثير من الكلام المصفوف .
من حيث الديكور و الملابس نرى البنايات الشاهقة و الاضواء في كل مكان و الجنود يلبسون الملابس الحديثة و يحملون الاسلحة الحديثة و سيارات فارهة حتى ندخل الى القلعة لنشعر اننا انفصلنا عن العالم الخارجي و انتقلنا الى زمن شكسبير , و الديكور يخرج من واقع الحداثة و حقائب و كراسي و لباس و تسريحات شعر من الزمن الحاضر بسمات الزمن القديم . اما الموسيقى فقد جاءت الموسيقى التصويرية منسجمة مع الاداء التمثيلي و الرؤية الاخراجية و الاهم من ذلك انها لم تحاول خطف المشهد التمثيلي لصالحها و لم تفخم الحدث او تحاول التأثير به فكانت منسجمة مع جو العمل بأكمله لدرجة انك تشعر بعدم وجودها في بعض المشاهد فكان اختيارها بهذه الطريقة اختيار ذكي متلائم مع روح العمل . و قد جاءت الإضاءة اغلبها إضاءة عامة خافتة خاصة ان التصوير كان في اكثر احيانه خارجيا و لم تستخدم الاضاءة لإبراز ملامح الممثلين و ابراز حالاتهم الانفعالية بل جاءت طبيعية باستثناء مشهد النور الابيض الذي استخدمت فيه الإضاءة بكثرة لتحمل دلالة .
الشخصيات :
الملك لير : اعتمد انتوني هوبكنز في الاداء على منهج ستانسلافسكي في المونولوج الداخلي بالإحساس العميق و التبني و الذي ظهر جليا" في عينه و صوته و لغة جسده دون أي مبالغات في الاداء فقد كان الاداء داخليا" و صادقا" و ذا إيقاع صحيح متماشيا" مع جميع الخطوط البيانية للشخصية عبر مجريات الفيلم و جاءت طريقة كلامه تشبه الثرثرة بحين و تشبه الصمت بحين اخر و تشي بالحكمة المجنونة في مواضع فتلجأ لتاريخها الملكي بقول النقاط الهامة في سيرورة عمل الشخصية.
غورنيل: إيما تومسون تؤدي دور الاخت الكبرى بصلابة و حدة فهو من اصعب الادوار حيث انها تؤدي خطابها بشكل ممتاز حيث اظهرت حالتين متناقضتين في نفس الوقت اقنعت اباها الملك لير بصدقها و اقنعت المتلقي بكذبها و كان الاداء غاية في الطبيعية و كأنها حقيقة بنت تتحدث الى اباها . ريغان إيملي واتسون: تألقت في مشهد فقأ العينين فأعطت حالة من الاجرام بكل دم بارد و كأنها فعليا قد تجردت من مشاعرها .
كورديلا :فلورنس بيو: جاء اداءها و اختيارها مطابقا" للمعنى الموجود في نص المسرحية فهي فتاة تملك الفطرة السليمة و الحب الطبيعي و كان من المحبب للمشاهد انتظارها كي تطل مرة اخرى و تنقذ اباها بوجهها المحب ذاته و كانت انفعالاتها و نظراتها صادقة .
ديموند و أرغار : شخصيات ثانوية بالمسرحية و لكنها اساسية و تدور خيوط اللعبة كلها حولهم في الفيلم و حيث يشكل الاخوان حالتي الخير و الشر و ان الابن الغير شرعي هو ديموند الذي يتحول الى شيطان يفتن بين الاب و اباه و يتسبب بفقأ عيني الاب و يلعب دوره الممثل بكل قوة و نظرات اتجاه الكاميرا تؤثر بالمتلقي و تعبر عن المكيدة و انكسار و الرغبة في الانتقام .
أما أرغار و الممثل الذي ادى دوره و انتقاله من الشخصية المتزنة الى الشخصية المجنونة و الممسوسة بمشهد تمزيق الثياب و دهن الوجه بالوحل حيث ان تغير القلب يغير الملامح بكل صدق و احترافية تكنيك اؤدي هذا الدور . أب أرغار و ديموند كان صادق المعاني فعندما امتلك عينيه لم يعرف ابنه البار و عندما اختفت عينيه تلمس ابنه البار يوصل البصيرة بتقاطيع جسده .
الضابط الذي يبقى صديق للملك يغير ملامحه مما يوحي بالتنكر و التخفف من السلطة بمشهد الحلاقة ليبقى ذلك الصديق القريب من الملك.
آلية السرد المتبعة في السيناريو:
بعد كل التغيرات العصرية التي استعملها المخرج بقي النص على حاله بداية وسط نهاية مع اللعب بوحدات أرسطو الزمان و المكان و البقيان على وحدة الحدث كما هو بداية تصاعدية حتى الذروة ثم الحبكة و الصراع حتى النهاية .
راوية ذياب -30-1-2021