طارق نصر الدين - 11-5 -2022
نبيُ الشعراء وراهبُ الحب، مبدعُ الكلمات صانعُ القوافي من رحيقِ الزهر، الزاهدُ بكل مجدٍ وشهرة، ولا يَكَلُ المَجدُ يُلاحقُ ثوبَ شموخهِ، مسيحيٌ فخورٌ بمسيحيتهِ، لكنهُ يَهوى النبّي العربي، أحَب مجدَ الإسلامِ الحضارّي وحَزِنَ لِزوالِ عصورِ الازدهارِ والتنوير فيه، لكنهُ أول من رفض تسييسَ الدين و إقحامهِ بالحياة المدنية، طالبَ بفصلِ الدينِ عن الدولة.
هَو من قال: "أنا شرقيٌ ولي الفخُر بذلك ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظلُ شرقيَ الأخلاق، سوريَ الأميال، لبناني العواطف".
كان الشرقُ موطنَ أحلامهِ ومسرحَ أمانيه وآماله، عاشَ فيلسوفاً خط حروف فلسفتهِ أبيات شعرٍ وقافية، كان القديس الموثوق، والحالم الناسك، امتزجت كتاباته مع الطبيعة فكان الناطق باسم العصافير حين تغرد للحب، كان المعلم والحكيم والمبشر للسلام، أعطى كالشجر المثمر في بستان المعرفة والنور، لم يكن يوماً كباقي البشر يعطي لمن يستحق فقط، كان يقول دوماً: (كن كالطبيعة ولا تقل سأعطي لمن يستحقون، فهذا ما لا تقوله الأشجار في بستانك، إنها تعطي لكي يتسنى لها أن تحيا، فأن تُقَتّر لَهوَ أن تفنى، فالشجرةُ لا تسأل من يأكل من ثمرها، تعطي كي تحيا).
هكذا كان جبران النبي، قديس الشرق والمتمرد الحر على كل طغيان القبيلة، العاشق الذي أحب دون أن يرى محبوبته ومعشوقته فراشة الأدب العربي المبدعة مي زيادة، فهو من قال "مخطئ من يظن أن الحب يحتاج إلى لقاء وعِشّرة لكي يولد، أنه لحظّة روحيّة واحدة،تجتاح قلبك فإما أن تَعشقَ وتُحب وإما لن يحدثَ هذا ولو بعد زمن ".
جبران الإنسان
((جبران خليل جبران)) النبي الذي تعمد في هيكل الطبيعة بندى الزهر في أعالي الجبال والقمم، هوَ شاعرٌ وفيلسوفٌ ومصورٌ وفنانٌ ورسامٌ وكاتبٌ وأديبٌ عربي عظيم، عُرِفَ جبران بالشاعر الأكثر مبيعاً لكتاباته في العالم بعد شكسبير ولاوتسي، لُبناني من مواليد كانون الثاني عام 1883 ، ولد في عائلة مسيحيةٍ محافظةَ في قرية بشري، كان والدهُ يعملُ في جبايةِ الضرائبِ ولم يكن ذاك الرجل الذي يعتمد عليه كثيرا، فكان سكيراً لا مبالياً وسجن بقضية اختلاس، مما شتت العائلة واضطرت أم جبران للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مع بناتها وأولادها واستقرت في بوسطن عند أقاربها، وما لبث أن عاد جبران إلى وطنه وقاده عشقه للشرق منذ صغره إلى العودة للبنان لكي ينهل منها علمه في اللغة العربية رغم أنه كان متفوقا في بوسطن بدراسته ونمت موهبته في الرسم، وأتقن اللغة الانكليزية وكان ممتازاً في دراسته، لكنه اختار لبنان ليلتحق بمعهد الحكمة في بيروت، وكانت مرحلة عودته من أمريكا حاسمةً زرعت بذور حب الشعر واللغة العربية في نفس جبران الرقيق المبدع.
جبران المبدع
تعلق بالتصوير الفوتوغرافي حتى غدا محترفا وأقام معرض له، ثم ما لبث إلى أن دخل عالم الصحافة والإعلام بعد أن تعرف على الكاتب الصحفية أمين الغريب مؤسس صحيفة المهاجر، حيث نشر جبران أهم مقالاته الأدبية فيها بدايةً من مقالته الأولى ذات الصدى الواسع "رؤيا" إلى مقالاتٍ فيها من الإبداع والوجد الكم الزاخر من المضمون العميق الكثير الكثير، وقد نشر هذه المقالات على شكلِ سلسلةٍ حملت عنوان (رسائل النار).
لقد كان جبران خليل جبران الأكثر تأثيراً في عصره ودون مبالغة أو استعارة مجازية لعظمته، كانت أعماله حول العالم ثاني وثالث أكبر انتشار بين الشعوب، بعد أعمال شكسبير ولاوزي، والأكثر ترجمةً بين لغات الأرض وثاني أكثر مبيعات حول العالم بعد شكسبير.
لقد قام الأديب العظيم جبران خليل جبران برفقة أعمدة الأدب المهجري والعربي "ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد" بتأسيس (الرابطة القلمية)، التي كان لها أثر في الحركة النهضوية العربية فيما بعد.
جبران العاشق
لم يكن جبران رغم كل ما يملك من عاطفة ورقة وإحساس، مزواجاً أو ميالاً للعلاقات العاطفية كباقي الشعراء أو الكتاب. تأثر في بداية حياته بالكاتبة الفرنسية (ماري هاسكل) التي كانت تكبره بعشر سنوات، ورعته مادياً ومعنوياً.
حياته العاطفية لم تكن عاصفة فلم يُعّرف عَنهُ علاقته بالنساء سوى علاقة حبٍ واحدة استمرت لسنوات، إلا أنها أعظم علاقة حب عرفها القرن العشرين، جمعته مع الأديبة الفلسطينية المصرية "مي زيادة" فراشة الأدب العربي التي كانت تقيم في العاصمة المصرية القاهرة حينذاك، جمعتهم علاقة حب عذري أشبه بحكايات الخيال، حب استمر عشرين عاماً من الإخلاص والعشق والشجون، لم ينته إلا مع موت جبران عام 1931، لتبقى مي زيادة بعد جبران مخلصة للحب الخالد بينهما وتلحقه للدار الآخرة بعد عشر سنوات من العذاب والوحدة والمعاناة حيث توفيت عام 1941 ميلادي.
أهم مؤلفات جبران
كان جبران مفكراً عميق الرؤيا واضح الفكر، تأثر بالفكر التحرري في الغرب، وامتزجت ثقافته بين حضارتين متناقضتين مما أشعل بعقله التمرد على كل ما هو متخلف ورجعي في الشرق، وليعلن سمو الخير على الشر ونصرة العدل، كان مبدعاً يعرف كيف يثور ليهدم ثم يعاود البناء بطريقة سليمة، ناقد وكاتب وشاعر ورسام ومصور قل مثيله، كتب باللغتين وأتقن وأبدع بالانكليزية كما نشر بالعربية أجمل رواياته وقصائده، نذكر بعض مؤلفاته :
صومعة ومتحف جبران
جبران الفريد من نوعه، ذاك الظاهرة الأدبية، علماني العقل مؤمن النفس ناسك القلب صوفي الهوى والروح، عاش حياته موحداً عاقلاً حكيماً، كان "النبي" جبران مبشراً بديانات الحب والسلام فغدا رسولاً لها، يبشُر فيها بكلِ لغات ِالأرض عَرفتهُ الجهاتُ الأربع وتُرّجِمَتْ مؤلفاتهِ لأكثرَ من أربعين لغة.
كان استثنائياً بكلِ تفصيلٍ في حياته حتى مماته، كانت أمنية جبران منذ شبابه أن يعيش بدير خاص له منعزلاً متوحداً مع الطبيعة، ولم يكن له ما تمنى إلا بعد وفاته، حيث قامت أخته مريانا بشراء الدير المذكور وغدا مسكنه الأخير.
وكم موجع ذكر مماتك يا جبران وكأنك اخترت الموت على درب الوجع ذاتهِ الذي سلكه أخواك، حيث أن جبران توفي بمرض السل كأخويهِ الصغيرين، قدرٌ موجعٌ جمعَ جبران وإخوته في موت متشابه.
رحل "النبي" ظلاً وجسداً، بقي روحاً لا تفارق أحبابها ولا من زارها، إذا ما حاولت عزيزي القارئ زيارة ضريح جبران، عليك أن تعلم أنه كالقديس والأنبياء ينشر فيك الطمأنينة، المحبسة أو مدفن جبران اليوم كانت مغارة قديمة تعاقب عليها الرهبان منذ القرن السابع الميلادي، مغارةً حافرةً قدمها وعراقتها بصخر جبال الأرز متربعة كتاج في وادي "قاديشا المقدس".
إلا أن وجود ضريحه في هذا الدير الذي تحول فيما بعد عام 1994 إلى متحف يستقبل الزوار من كل أصقاع الأرض أضاف قداسةً وخشوع، رسوم جبران وأشعاره وطاولته ومعداته الشخصية، حتى تَختهُ وحِرامهُ ومَخدّتهُ التي تشعرك أن جبران كان هنا منذ لحظات، حولته إلى أكثر من معبد أو متحف تخال نفسك في صومعة نبي وقديس! قشعريرة وخدر تسري في جسد الزائر روح جبران لا تفارق المحبس وحتى صوته، إذا أصغيت بصمت صدى الصوت لن يخذل مسمعك. جبران لن يدعك تذهب دون أن تمس روحه قلبك، كما لمستك سابقا كتبه وأفكاره ولوحاته، فعلى يسار القبر تماما جملة محفورة بخط يده أوصى أن تنقش على قبره، فيقول لك مستقبلا ومودعا في الآن نفسه "أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فأغمض عينيك والتفت.. تراني أمامك".
المراجع
(كتاب: أوراق جبرانية، للكاتب: إسكندر نجار).
(كتاب: جبران خليل جبران، للكاتب ميخائيل نعيمة).