مشهد وشهادة في امرأة القرية بين الأمس واليوم

ايمان ابو شاهين يوسف - 5- 8- 2023

لو ان القيمة والتقدير تعطى للإنسان على قدر تحمّله ومعاناته لكان للمرأة في القرية الحق بأن تكون من أرفع الناس قيمة وقدراً، ومن أعلاهم شأناً ورتبةً لأنها أكثر الناس تحمّلاً ومعاناة. فهي بالإضافة الى وظيفتها الطبيعية " الانجاب"، عليها القيام بأعباء جسام من الناحيتين العائلية والاجتماعية.

 فمن حيث الواجبات العائلية فعليها الاهتمام بتربية الأبناء ورعايتهم الى جانب إدارة شؤون المنزل والعناية بكل مرافقه، مع التحضير اليومي للطعام والتحضير لمؤونة السنة بكاملها، وهذه مساهمة غير مباشرة في تحسين دخل العائلة وتوفير الامن الغذائي لها. 

لذا كان على المرأة ان تقوم بسلق القمح وتجفيفه ثم جرشه على الجاروشة ليصبح سميدا (الناعم منه والخشن). بعدها تأخذ قسما من السميد الخشن وتنقعه بالحليب واللبن لمدة ثلاثة أيام ثم تكسره باللبنة حتى يصبح كالعجين فتثره قطعا صغيرة على شرشف نظيف وتضعه تحت اشعة الشمس حتى يجف، فتفركه بين كفيها وتنخله لتجمع مؤونة الكشك للشتاء.

 كما كان على المرأة وبعد ان يكون الرجل قد اخذ القمح الى المطحنة وطحنه ليصبح طحينا، كان عليها ان تعجن هذا الطحين لتخبزه في اليوم الثاني لكي تقدمه عيشا مباركا لعائلتها. 

ومن اعمال المرأة أيضا الزبيب حيث تقطف عناقيد العنب عن الدوالي فتغسله ثم تفرشه على اطباق من القش     وتضعه على سطح المنزل في مواجهة الشمس وتكون قد صنعت الصفوة من الرماد والماء الذي تضيف له قليلا من الزيت بعد ان تصفيه، ثم ترشه على العنب المفروش على الاطباق، وتكرر ذلك حتى يجف فتغسله بالماء العذب وتفرشه ثانية حتى ينشف فتجمعه وتضعه في اواني فاكهة للشتاء.

 وأيضا من العنب، فتتعاون المرأة مع زوجها في قطفه وعصره ثم عليها ان تطبخه على النار وتحريكه حتى يسمك ويتحول الى دبس، فتطفئ النار تحته بعد ان تكون قد خففته تدريجيّاً، وبعد ان يبرد تخفقه جيدا ثمّ تضعه في الأواني مؤونة شهية للبيت. 

والدبس كان يستعمل في الصيف كشراب بارد يطفئ حرارة الصيف حيث يذوّب بالماء البارد مع اضافة قليلا من ماء الزهر. وفي الشتاء يقدم مع قليل من الطحينة للتحلية بعد الطعام. كما يمكن ان يصنع منه العديد من أنواع الحلويات البيتية. 

وللعنب أيضا استخدام آخر حيث تحبحب المرأة العنب وتغسله ثم تتركه حتى ينشف لتضعه في اواني فخارية وتغطيه بغطاء من الشاش حتى يتنفس الهواء فيختمر ويتحوّل الى خلّ. بعد ذلك تعصره وتصفيه وتضعه في عبوات زجاجية لاستعماله في كبيس المخللات كما تضعه في السلطة والفتوش.

 وأيضا كانت المرأة تجفّف التين فتطبخ قسما منه ليصبح مربى طيب المذاق وتترك قسما آخر ليؤكل في الشتاء مع الجوز واللوز. 

والمرأة في القرية هي من تهتم بتربية الخراف، أي " تعليفها" من أجل ذبحها وصنع القاورما منها مؤونة لكل السنة. لذلك عليها أن تقضي أياما وليالي طوال من اجل تلقيمهم الطعام بيدها حتى يكبروا ويسمنوا.

 والمرأة أيضا مسؤولة عن موسم القزّ، فالرجل يحضّر ورق التوت وهي عليها ان تهرم هذا الورق وتطعمه لدود القز الى ان يحين " شيل الحرير". 

وهي من تصنع النشاء من القمح، فتبلّ القمح جيدا حتى يختمر ثمّ تعصره وتستخرج لبّه الصافي وتجفّفه في الشمس حتى يصير نشاء.

 وتصنع المرأة أيضا ماء الورد وماء الزهر، حيث تجمع الورد الجوري من جوار القرية وزهر الليمون ثم تضع الورد بالكركة لصنع ماء الورد وتضع زهر الليمون بكركة أخرى لصناعة ماء الزهر. 

والمرأة في القرية هي من كانت تملأ الجرار فتحملها على كتفها من العين الى البيت حتى تؤمن مياه الشرب ومياه الصفوة للغسيل، والصفوة كما اسلفنا كناية عن ماء ممزوج بالرماد النظيف يصفى ويستعمل في عدّة استعمالات منها الغسيل، لأنه منظف قوي يرغي عليه صابون زيت الزيتون فيجعل الغسيل نظيفا " مهفهفا" وبعد ان يعصر يعاد الغسيل الى الماء الصافي البارد حيث يوضع فيه القليل من النيل " فيشقشق"، ثم يعصر وينشر تحت أشعة الشمس فيتطهّر ويجفّ ويصبح لونه مشرقا ورائحته زكية. 

وكانت المرأة تذهب أيضا الى الحقل فتساعد أولا في زرع الشتول وبذر الحبوب ثم تتابع ريّ المزروعات الموسمية من مياه الينابيع والصهاريج المبنية في اعلى الأرض. وبعدها تقطف الثمار وتجمع الخضار وتحملها بسلال على كتفها الى البيت، فتستعمل منه حاجتها وتصنع من الباقي مؤونة تحفظ في الخزائن المعدة لذلك. 

والمرأة هي من كانت تحلب الابقار والماعز وهي من تصنع اللبن والجبن كما تصنع السمن والقريشة من الحليب الطازج. امّا من صوف الأغنام فكانت تصنع الفرش او تغزل الصوف لتحيكه وتصنع منه ثياب الشتاء الدافئة. 

كما انها كانت تغسل جلد الخرفان وتدبغه بالوان زاهية لتفرشه امام موقد الشتاء. وكان عليها ان ترثي ثياب افراد العائلة الممزقة بعد كلّ غسيل. كما تخيط ثياب اطفالها وتخيط أيضا لهم الدمى. وكانت النساء تتفوّق بعضها على البعض الأخر بزينة البيت وخياطة الثياب والدمى وصنع الأطعمة بحسب فنّها وإبداعها. 

والمرأة في القرية هي المدرسة الحقيقية لأبنائها. فهي من كانت تعلّمهم الادب والأخلاق، وتوجههم سواء السبيل. ومن الناحية الاجتماعية، فكان عليها المساهمة في الواجبات الاجتماعية والمشاركة في افراح القرية واتراحها. كما عليها ان تعاود المرضى والعجزة، والمباركة بالمولود الجديد، والمعايدة بمناسبة الأعياد وتقديم المعونة للمحتاج.

  وقد برزبين نساء قريتي سيدة رائدة في عمل الخير ونشر المحبة بين الناس تدعى ام زهير (جمال عجاج عبد الصمد) حفيدة شيخ عقل الطائفة الدرزية المرحوم الشيخ محمد عبد الصمد، التي لعبت دورا مميزا في مجتمعها فكانت مدرسة بالمحبة والتضحية والعطاء، فأحبت جميع أبناء البلدة وشاركتهم افراحهم واتراحهم، وكانت امّا للصغير، واختا لمن ساواها عمرا، وابنة لكبار السن. 

في مواسم القطاف كانت توزّع المحصول الأول على من ليس له رزقا. ومن خبزها توزع ثلث المعجن على الاهل والجيران. ومن طبخها كانت تطعم أولا من كان في زيارتها من العجائز والأطفال حتى قبل اهل بيتها (زوجها واولادها). كما كانت ترعى العجائز رعاية خاصة، تقلّم اظافرهم وتنزع ما علق من شعر او غبار في اعينهم، وتغسل مناديل السيدات العجائز منهن. وفي أيام العطل المدرسية، كانت ترسل أولادها لمساعدتهم وتلبية حاجاتهم...أمّا من كان مريضا فكانت تقدم له كل ما يحبه ويفيده من الطعام والفاكهة وتبعث في قلبه الامل والاطمئنان.

 وما يميز هذه السيدة بالإضافة الى روحها الطاهرة وقلبها المملوء بالمحبة والرحمة، رجاحة عقلها وقوة شخصيتها وثقتها بنفسها. فكانت تصلح بين المتنازعين فتنطق بالصدق وتقول كلمة الحق. كما كانت تحث فتيات القرية على العلم والسير في ركب المعرفة والتقدم. وكانت قدوة للآخرين ومدرسة في الاخلاق والإنسانية. كرمُها ومحبتها دفع بأبناء القرية للتشبه بسلوكها والسير بطريقها، طريق الابرار الصالحين. 

هذه هي امرأة الامس التي نعتز بعطائها وانسانيتها ونقدر دورها وتعبها وأخلاقياتها العالية، رغم حرمانها من الحقوق الأساسية وثقل الحمل التي رزحت تحته. 

 أمّا امرأة الحاضر التي تعيش في عصر التكنولوجيا والانترنت، فهي امرأة متعلّمة لها مكانتها الاجتماعية والسياسية. وتشغل العديد من الرتب والمراتب الوظائفية. وتعيش في مستوى من الراحة والرفاهية.

 لا تحتاج الى بذل جهد جسدي كالسابق، بسبب التقدم في كل التقنيات والآلات التي توفر لها الراحة المنزلية. 

وفي عصر الانفتاح العالمي الذي تعيش به، عليها ان ترسم المشهد الذي يليق بها ويرفع من قدرها وقيمتها، وتستفيد مما يتوفر لها من علم ومعرفة، ورفاهية وتقدم، وانفتاح وخبرات، وحرية ومساواة. وتفعّل كل ذلك في العمل والعطاء المثمر الذي يرفع من مكانتها ويبعدها عن السقوط في هوّة النزوات. 

 كما وعلبيها ان لا تضيّع هذه الفرصة الذهبية بالأمور العبثية السخيفة. فتقع في مصيدة الوهم التي تصور لها الانحدار الأخلاقي رقيّا وتحررا. والنزوات الحيوانية شهرة وعظمة. 

 ولتتذكر دائما أن ما تقدّمه اليوم كناية عن بذور تزرعها في رياض المستقبل. 

 وأخيرا الف تحية وسلام لكل نساء القرية الغابرات منهن والحاضرات. 

المراجع

- كتاب بذرة وتراب للأديب سعيد احمد أبو شاهين- مكتبة حرمون

 -كتاب السر الدفين للأديب سعيد احمد أبو شاهين- مكتبة حرمون

 - كتاب جوهر المرآة للأديب سعيد احمد أبو شاهين- مكتبة حرمون