فاروق غانم خداج - 14- 5- 2023
لم تغادر كلماتها جبلَنا، ظلت محفورةً على كعبِ كل صنوبرة، أرزةٍ، سنديانة. استمرت كتبُها تنبض بالحياة المستمدة من الموت الجسدي نضارةً تعاكس الجمود والسكون. لم يُكسر قلم د. نازك عابد أو يجفّ حبره، بل مازال وقّاداً كجمر الشتاء يغذّي النفوس والمواجع بالحبّ والحنين. لا أخال تلك الأيدي المعطاءة تندثر معالمها مادام للطهر بوابة إلى الإفئدة المحاطة بالصدق والجمال.
حوّلها جنون الموت الغادر كآذار إلى شعلة فكر لا تنطفىء على مسافة قصيرة من ذكرى استشهاد معلمها الخالد. وما كان بينها وبين تاريخ انتهاء حياة العظيم سلطان باشا الأطرش أكثر من أيام قلائل. لقد التحقت د. نازك بربعها الغني عن التعريف، واستقرت هناك في مثلث الحكماء، مأخوذة بكلّ منائر الفكر والإيمان والفضيلة.
كانتِ المسافة بين الباروك ( مسقط رأسها) والمختارة ( قرية زوجها) أقلّ اتساعاً من خيالها العابق بالعظمة وحسّ الانتماء. لم تنقطع يوماً عن مكانٍ أحبته ( وست هيل كولدج) حيث كانت تنمّي المعرفة الهادفة في جيلٍ محظوظٍ بوجود أمثالها . أشرفت من هناك على دنيا ملؤها السمو والارتقاء . ما ضاق ذرعها بحال بلدٍ يذوب على وقع طيش حكّامه، بل بقي إيمانها زاهراً لا يذوي ولا تنطفىء أقماره.
جالستها مرارا متحدثاً إليها عن إعجابي بكمالٍ الذي كان إبداعه نقطة تقاطع بيني وبينها. وكانت تضفي _ في كل مرةٍ_ على محبتي للرجل ثناء وترغيبا وتشجيعاً. ويمتدّ حديثها معي إلى وليدٍ وتاريخ البيت.
وتبدو _ رغم كثافة حضورها الموسوعي_ متواضعة تتقن فن الحوار، فهي تمنح جليسها فرصةً لتقديم رؤيته كاملة، ثمّ تضع نقاط معرفتها على كلمات صادقة موسومة بالحقيقة؛ ومما قالته لي ذات مرة: "آل جنبلاط امتداد تاريخي وحضاري قوامه الاخلاص والالتزام وخدمة الناس، فأولهم ركيزة لثانيهم....وعاشرهم...إلخ. فحكمة الست نظيرة مثلاً لها نكهة تختلف عن فلسفة ابنها المعلم، وشخصيتها لا يملكها كمال رغم عليائه. وهذا الاكتظاظ المعرفي الذي يختزنه كمال ينطبق على وليد في مكان آخر، فلا يمكنك أن تذكر فلسفة وأدب كمال، وتنسى حنكة وبعد نظر وليد. فأركان البيت الجنبلاطي بماضيهم وحاضرهم لهم ميزات خاصة عن بعضهم وعن غيرهم؛ وهذه الميزات _ في اجتماعها_ تشكل كلا متكاملا لزعامةٍ وضاءة المواقف والاختبارات..."
لن أسهبَ في استرجاع مآثر أميرة حرف وكلمة من شوفنا الحبيب؛ ولكنني كلما ذكرت كتبها ومؤلفاتها أشعر أنني على تماس مع موضوعات قيّمة الهدف والمجال.
فإلى روحها العذبة الخواص تُهدى تحيات التقدير والاعجاب...