"كرمة...."

           "كرمة" فتاة يتيمة الأب والأم ، ترعرعت هي وشقيقتها في بيت عمها وتزوجت أختها بشاب فلسطيني ، ثم توفيت بعد سنة أثناء الولادة . 

أما هي فبقيت في بلدة أهلها حيث شاء القدر أن تتزوج بأحدهم وتعيش معه عيشة المرّ وأنجبت منه ولداً . كان زوجها إنساناً مادياً غیر رحوم ، أجبرها على أن تأخذ حصتها من عمها ، أي حصة أبيها ، فأعطاها عمها بكل طيبة خاطر ، ودعا لها بالتوفيق . 

كانت کرمة على نياتها لا تعرف ما يكيد لها زوجها ، إذ قام هذا الأخير بالاستيلاء على حصتها وباعها واشترى بها سيارة  (أجرة ) كي يسترزق على حد قوله ، ولم تكن تعلم ما يدور في خاطره لبساطتها . 

بعد فترة طلب منها أن ترافقه في جولة في هذه السيارة الجميلة ، فركضت فرحاً واغتبطت ولبت طلبه . سار بها بعيداً بعيداً حتى وصل إلى سوريا ، وهناك وسط الزحام طلب منها أن تترجل وتتبضع ، فلم تصدق نفسها من هذا اللطف الذي لم تعهده سابقاً ، وهنا بدأت حكاية كرمة الجديدة .

 تركها وحيدة في بلاد لا تعرف فيها أحداً  ، لا تعرف كيف تعود ولا كيف تتدبر أمورها ، فراحت تبكي وتلطم وجهها وتسال لكنها لم تجد جوابا . لاحظ أحدهم حسرتها فسألها : من أين أنت يا أختي ؟ قالت له من بلاد بعيدة لا أعرف طريقها ولا أعرف أحد هنا ، فحنّ عليها واصطحبها إلى بيت أهله ، وهم أناس طيبون ، يخافون الله ، وفي قلوبهم رحمة وكرامة وشهامة فلم يسمح لهم ضميرهم أن يتركوا هذه المرأة الصغيرة وحدها فحضنوها وأشعروها بالأمان والاطمئنان .  

       توالت الأيام ولم تعرف خبراً عن زوجها الغدّار ، فحكت قصتها أمام هذه العائلة الكريمة ، وبعد حين عرفت أن زوجها قد أخذ مالها وطلقها ثم تزوج بغيرها ، وهذا كان أفضل لها ، بعد أن استحوذ على حصتها التي ورثتها عن أهلها . شاءت الأقدار أن تتزوج بالإبن الأكبر لهذه العائلة التي احتضنتها فأنجبت خمسة أولاد ذكور وثلاث بنات غير ولدها الأول من زوجها السابق الذي لم يكن إلا صورة عن أبيه في جشعه وطمعه . أما عمها فعرف بأن زوجها ضيَّعها في سوريا وعرف أين هي ابنة أخيه ، وأنها تزوجت فيما بعد ، فكان يسأل عنها بين الحين والأخر ويطمئن عن أحوالها وكانت سعيدة وهادئة ما أسعد عمها وارتاح باله عليها لأنها تستحق السعادة .

     قبل أن يموت عمها کتب وصيته لأبنائه حيث كان لديه ولد ذكر وثلاث بنات فكبرت العائلة وأصبح لكل فرد فيها عائلته وحياته الخاصة ، وبعد مرّ السنين جاء ابن ذلك العم لفرز الأرض التي ورثها عن والده لأنه أراد أن يوصي لأبنائه كما فعل والده سابقاً ، فتفاجأ بأن المختار قد سجل الحصة التي هي ملك لوالده باسم ورثة والده ، كان هذا الرجل طيب القلب لا يحمل في قلبه  ضغينه لأحد ، رجل مثقف يخاف الله ويعطي دون أن يسأل ، لكن أيامنا هذه طيب القلب والصادق دائما يدفع الثمن . قال له أحد المحامين : يجب على هؤلاء الورثة أن يسقطوا حقهم لتصبح الأرض التي تملكها باسمك وحدك ، فقال له الرجل بان حصّتهم قد أخذوها مسبقا فلا يحق لهم في هذه الأرض لا من قريب ولا من بعيد ، لكن هذه الغلطة التي افتعلها المختار كان لا بد أن تنجلي . بسبب وفاة ابنة عمّه ، توجه هذا الرجل إلى أبنائها وطلب منهم التنازل وتوقيع الورقة كي يصلح أوضاع أرضه ويمكنه أن ينشىء فيها عمارة لولده . 


     أستجابوا لطلبه بكل طيبة خاطر ، فأعطاهم هذا الرجل النبيل مبلغا من المال لتحسين ظروفهم ورأفة منه بهم ، وعاد مسرور الخاطر إلى الوطن . أما ابنها الذي من زوجها الأول ، هذا الإنسان الذي يشبه أبيه ما إن طلب منه أن يوقع له بالتنازل حتی "کشَّر عن أنيابه" وأخذ الطمع يغريه بأن يستولي على حصة من الأرض وهو يعلم حق العلم أن والده أخذ حصة أمه كاملة ولا يحق له بحفنة تراب من أرض الرجل الطيب . 

     راح هذا الطمّاع وأقام دعوى على الرجل كي يستملك جزءا منها ، فالقانون يملًکه لكن الحق لا يملّكه لأنه لا يحق له بالشرع والقانون عند الله سبحانه ، أما قانون البشر الذي اختلقوه فهو مختلف كليا . راح يتملّق حينا ويهدد حينا آخر ، وحين قالوا له كيف تفعل ذلك وأنت تعرف أن حقك قد قبضته سلفا ولا يحق لك في أرضه ، فالمختار هو الذي قام بكتابة خاطئة وكيف لك أن تستحل مال غيرك ، وأين ضميرك ؟

 رد قائلا : إذا كان هذا الرجل ( غبي ) جاء وطلب مني التنازل كيف أفعل وأرفض نعمة جاءتني على طبق من فضة .

 اصبح الإنسان النبيل الطيب الذي يخاف الله بنظره ومفهومه ( غبي ) ، وهذا الأخير أعلى مرتبة وأفضل ممن يبيع ضميره . المهم أن الرجل الطيب أعطاه حصة من الأرض لأن القانون له ؛ و كان مبدأ هذا الرجل " شبر من الأرض يفني اهل الأرض ".  و اقنع ولده بأن يسمح له بالتملّك  لأن الأرض كبيرة أصلاً ، فحلّوها حبياًًّ. 

  لكن القصة لم تنته هنا ، مرّت الأيام وتملك الرجل قطعة أرض حسب ما ينص عليه القانون ، وبعد حين جاء أخوانه يطالبون بحصصهم من الأرض . هذا هو الطمع ، هذا هو المفهوم القانوني الذي بإسمه تنتزع وتُسلب الأشياء من أصحاب الحق الشرعي . 

 في هذه المواقف تكشف نوعية الأشخاص إن كانوا رجالا بمعنى الكلمة ، وأصحاب رجولة وشهامة ، وهؤلاء في زمننا أصبحوا حتما نادرین .

 مهما ذکرنا قصصا ، هناك قصص كثيرة أمثالها ويبقی تقدیر الأمور لأصحاب الضمير الحي الذين لا يبيعونه مهما كانت الظروف .  


      لينا صياغة كتاب  " شمعتي لن تنطفئ"