بقلم رئيس التحرير د. ربيع كمال الدين - 15-2-2023
لا شك بأن ما أطلقه الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون في أحد التصاريح الصحفية منذ أكثر من سنتين بأنه إذا لم تتشكل حكومة في حينه فإننا ذاهبون الى جهنم، كان حقيقياً ونقلاً للواقع وقد أثبتته الأيام والأحداث التي حصلت منذ ذلك الحين ولغاية اليوم. إلا أن أكثر ما يحيًر اللبنانيين ويقض مضجعهم هو مدة هذه "الجهنم" وكيفية الخروج منها، وهل من نقطة ضوء في نهاية هذا النفق المظلم؟
بدايةً، فلنشرح ماهية الانهيار وكيف بدأت الأمور بالتدحرج وصولاً الى القعر، وهل أننا وصلنا الى القعر فعلاً أم أن هنالك طبقات سفلى أكثر في هذه "الجهنم"؟
بدأت القصة بالظهور إلى العلن في شهر تشرين الأول من العام 2019 عند قيام تحركات شعبية غاضبة سميت لاحقاً بالثورة أو الإنتفاضة، وهي النقطة التي أفاضت الكأس. حيث أنه أصبح من المعلوم أن الأزمة المالية والنقدية بدأت فعلياً في العام 2016 وجميع المسؤولين كانوا يعلمون بها، إلا أن مفاعيل التسوية حينها دفعت بهم إلى الطلب من حاكم مصرف لبنان لابتداع الحلول الظرفية ريثما تتبدل الظروف الدولية وتسمح لهذه المنظومة من استجرار أموال إضافية الى البلد عبر مؤتمر باريس 3 أو غيره، وبالفعل فقد قام هذا الأخير بإجراء خطير أسماه وقتها بالهندسات المالية وهو عبارة عن الطلب من المصارف باجتذاب ودائع خارجية جديدة ووضعها لديه وبفوائد "خيالية" وفق ما هو متعارف عليه في الأسواق المالية.
غير أن إبرة المورفين هذه لا تخدم سوى لفترة قصيرة انتهت في العام 2019، كما أن حسابات "حقل" المنظومة جاءت مغايرة لحسابات "البيدر"، حيث أن كافة الدول كانت تطلب إصلاحات جوهرية بنيوية لتقدم على المساعدة وتقديم الأموال، وهذا ما لا تريده ولا تتجرأ على تنفيذه بالتأكيد كونه سيصيبها بالصميم نظراً لما ارتكبته وعلى مدى سنين طويلة من موبيقات (توظيف عشوائي هائل، هدر وفساد، تنفيعات،...الخ)، مما دفعها إلى الاقتتال في ما بينها غير آبهة بمصالح الناس وبالمستويات الخطيرة التي وصل اليها البلد، فاستمر كل طرف بطلب وزارة من هنا ومركزاً من هناك لنهش وقضم ما تبقى من جسد الدولة المنهك والمنهار.
إذاً، بنهاية العام 2019 بدت الأمور جلية وواضحة للعموم، وأدرك الجميع استحالة إخفاء الأزمة التي بدأت تتكشف أولا بإقفال المصارف لفترات متلاحقة دون سبب جوهري، من ثم تقنين وصول المودعين إلى أموالهم، وصولاً الى الكشف عن الحقيقة المرة بأن هذه الأموال لم تعد موجودة، وليبدأ معها تقاذف الكرة بين المصارف والدولة ومصرف لبنان، كل يريد تحميل الآخر المسؤولية الكبرى عن الأزمة. ولم يلبث أن بدأ سعر صرف العملة بالإنهيار فاضحاً كلام وزير مالية لبنان في حينه وحاكم مصرفه المركزي اللذين لم يخجلا من طمأنة الناس قبل أيام قليلة بأن الليرة بخير و"لا تخافوا". كرة الثلج بدأت بالتدحرج جارفةً معها "الأخضر واليابس"، فانهيار العملة يرافقه الكثير، بدءاً من الإرتفاع الجنوني للأسعار (تضخم جامح)، عدم فعالية المراقبة (إن ُوجدت) ، هلع عند الجميع وتهافت على تسوق المواد الغذائية والتخزين مع ما يرافق ذلك من "مآسي"، الإسراع إلى المحاولة وبكافة الطرق لسحب الأموال من البنوك وشراء الدولار والاحتفاظ به في المنزل (الخزنات) وبالتالي اخراجه من الدورة الإقتصادية، والأهم من كل ذلك تكوّن "عصابات" متخصصة بالنصب والاحتيال والابتزاز، تبدأ بإخفاء البضائع وتخزينها لبيعها لاحقاً بأضعاف ما اشتروها أو تهريبها إلى الخارج، مروراً بالاستفادة من الدعم للمواد الأساسية وتزوير المستندات للقيام بذلك، وصولا الى المضاربات والمراهنات على العملة الوطنية لتحقيق مكاسب هائلة غير مشروعة .
وما "أتم النقل بالزعرور" هو القرار الإعتباطي الذي اتخذته حكومة الرئيس حسان دياب ومباركة "فخامة الرئيس" والذي قضى بعدم دفع استحقاقات لبنان الخارجية دون المفاوضة مع الدائنين واعادة جدولة الدين وهو ما إدى الى أدنى تصنيف مالي للبنان جعله بمصافي الدول الفاشلة التي لن تجد في العالم من يقرضها سوى صندوق النقد الدولي بشروطه القاسية إنما ...المحقة.
استمر الوضع على هذا التدحرج الخطير، إلى أن وقع المحظور بإنفجار 4 آب 2020 بأبعاده الداخلية والخارجية وما نتج عنه من مآسي على كافة الصعد، وأصبحنا مهرولين نحو "الجهنم"، لا مسؤولين بل مجرد دمى، لا ضمائر بل مجرد أحجار، لا قوانين أو أنظمة بل مجرد "مزرعة" تسود فيها شريعة الغاب، ولا زلنا مستمرين فيها الى يومنا هذا.
عليه، فقد أصبح اللبنانيون رهينة ثلاث عصابات مجرمة، تقبض على رقابهم وتضيق عليهم النفس الذي يتنفسونه. العصابة الأولى وهي ما يسمى بالدولة أو بالتحديد الطبقة الحاكمة المجرمة على مدى السنوات الطويلة بعد الحرب الأهلية، فهي التي بذرت معظم أموال اللبنانيين وهي التي لزمت مقاولين فاسدين، ووظفت حاشية لا تعمل، وهي التي أهدرت وسرقت ونهبت، ولا تريد أن تتحمل أي مسؤولية بل وللأسف هي من تطرح نفسها كمفتاح للحل.
العصابة الثانية والمرتبطة بشكل لصيق بالعصابة الأولى وتؤمن كافة مصالحها، وهي مجموعة المصارف من البنك المركزي وحاكمه إلى كافة المصارف التجارية وغيرها مع حاشيتها وحتى معظم موظفيها لا سيما الكبار منهم. فهي بالإضافة إلى تصرفها اللامسؤول واللااحترافي طيلة الفترة الماضية من توظيف لأموال المودعين في أماكن خطرة والإستهتار بأبسط قواعد الإستثمار و"التشغيل"، إلى الألاعيب والخدع التي كانت تطلقها وتوهم المودعين والمستثمرين بها من هندسات مالية وفوائد خيالية وغيرها، وهي اليوم تهدد وتتوعد وتعترض وكأنها صاحبة حق.
العصابة الثالثة وهي المكملة للعصابتين الأولتين، وقصدنا بها مجموعة المضاربين على العملة (الصيارفة) والتجار المستوردين وكبار التجار المحليين. فهذه العصابة هي التي على تماس مباشر مع المواطنين، فمجموعة منها ترفع وتخفض سعر الدولار كما يحلو لها (بالتنسيق وبرضى من العصابتين السابقتين كما ذكرنا)، تتنافس وتتبادل الأدوار في مقامرة وقحة على العملة الوطنية مع ما يعكسه ذلك من كوارث على كافة نواحي حياة المواطنين "الشرفاء"، وبما يلائم المجموعات الأخرى من مستوردين وتجار محليين ومهربين، منقضّين بجشع وطمع لم يسبق له مثيل في التاريخ على التلاعب بأبسط مقومات العيش.
تجدر الإشارة إلى أن فئة كبيرة من الشعب إنضمت بشكل أو بآخر إلى جلاديها (العصابات الثلاث) إما لفائدة بسيطة وآنية ، وإما لمصالح أخرى. فالعصابة الأولى تضم "متعصبي" الأحزاب والحاشية والتي أعمتها عصبيتها عن رؤية الحقيقة، في ما الثانية تضم معظم موظفي المصارف وبعض كبار المودعين والمتعاملين في هذا القطاع، أما الثالثة وللأسف فقد أصبحت تضم فئة كبيرة "تقتات" على فضلات مشغليهم ولا تعلم بأنها تعيث فساداً ودماراً بها وبعائلاتها. وهذا ما يفسر الخنوع والخضوع الكبير لدى الشعب حيث أصبح بمعظمه إما مهاجراً، أو منضوياً في إحدى هذه العصابات، إما يترنح تحت وطأة الفقر المدقع والجوع والمرض.
من هنا يمكننا الإستنتاج أن الخروج من الوضع الحالي صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً في القريب العاجل، وسيكون إن حصل على مراحل عديدة. تبدأ بتسوية إقليمية دولية على إعادة انتظام الحياة السياسية في لبنان من إنتخاب رئيس جمهورية، وتشكيل حكومة إلى إعادة تفعيل أجهزة وإدارات الدولة شبه المتوقفة حالياً، ليليها إقرار لخطة تعافي تكون عادلة بتحميل المسؤوليات وتوزيع الخسائر بين الأطراف الثلاث : الدولة، المصرف المركزي، المصارف وكبار المودعين.
وللأسف، أصبح التعويل على نهضة أو انتفاضة الشعب أمراً مستحيلاً أو شبه المستحيل.