منذ بضع سنوات، وضع ديفيد دويتش، عالم الفيزياء بجامعة أكسفورد، نظرية بسيطة ومثيرة، أسماها «مبدأ التفاؤل». في رأيه، كل معرفة لا تتعارض مع قوانين الفيزياء، يمكن الوصول إليها من خلال تطبيق العلم واستعمال العقل. والمتغير الوحيد هو المدة التي تستغرقها عملية تحصيل المعرفة.
وقال دويتش «إن كل الشرور تنبع من أصل واحد، وهو الجهل ونقص المعرفة»، مشيراً إلى ضرورة تسريع البحث العلمي لبناء عالم أفضل. بلا شك، إنها فكرة تبعث الأمل في زمن عصيب. لكن النظرية قد تُرفض أيضاً على نطاق واسع، باعتبارها ساذجة. فالأهوال الحالية في الحرب الروسية الأوكرانية وفي غزة، ليست نتاجاً لنقص المعرفة العلمية.كذلك لم يكن فشلنا الجمعي في التصدي لظاهرة الاحتباس الحراري، مرده إلى نقص القدرات التكنولوجية، بقدر ما يتعلق الأمر بالإرادة السياسية، كذلك، فإننا إذا نظرنا في وضع العالم الحديث وإمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة، فقد يخلص كثيرون إلى أن ثمّة احتمالاً كبيراً إلى عودة البشر إلى العثور الوسطى المظلمة، بدلاً من هيمنة التنوير.
رغم ذلك، فإن حالة التفاؤل تنمو وتقوى مع مرور الوقت، بفضل ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من إمكانية التوصل لمزيد من الاكتشافات العلمية. كذلك، فإن الآلات تتوصل من جانبها إلى سبل جديدة للبحث، وإضافة عدد لا حصر له من أدوات البحث المؤتمتة، التي لا تكل ولا تمل عن العمل، إلى قوة العمل بالمجال العلمي.وقد تنتج عن وسائل الذكاء الاصطناعي دفعة مطلوبة للغاية للإنتاجية الاقتصادية، بما قد يسهل ويبسّط العديد من القيود المجتمعية.
وفي إحدى المحاضرات التي أُلقيت في كلية لندن الجامعية في شهر نوفمبر، قال ديمس هسابس، المؤسس المشارك لشركة غوغل ديب مايند، إن العالم بصدد الدخول في حقبة زمنية جديدة من «العلم في ظل السرعة الرقمية»، بفضل قدرات الذكاء الاصطناعي الخارقة.وقال «إننا في عصر نهضة الاكتشافات العملية»، «فالذكاء الاصطناعي لديه قدرة كبيرة لمساعدة البشر على تجاوز أعظم تحدياتهم.
وسيكون الذكاء الاصطناعي بمنزلة إحدى أهم التقنيات التحويلية والنفعية التي يخترعها البشر على الإطلاق.
وأشار هسابس في السياق ذاته، إلى مثال تقنية ألفا فولد، وهو عبارة عن نظام لتعليم الآلة، أطلقته ديب مايند، والذي تنبأ بالهياكل المكونة لعدد 200 مليون نوع من البروتينات، ليشكل أحد المصادر التي لا تقدر بثمن للباحثين الطبيين، بينما في السابق كان الأمر ذاته يتطلب تفرغ طالب دكتوراه لمدة خمس سنوات، حتى يتمكن من إنشاء هيكل واحد من هياكل البروتينات.لذلك، فإنه طبقاً لحسابات شركة ديب مايند، فقد وفرت تقنية ألفا فولد على البشر ما يناهز مليار عام من الزمن المطلوب لهذه الأبحاث، وهي كذلك تستخدم، رفقة غيرها من الشركات، تقنيات الذكاء الاصطناعي، لإنشاء مواد جديدة، واستكشاف عقاقير وأدوية جديدة، وحل مختلف التخمينات والمسائل الرياضية، والتنبؤ بحالة الطقس بشكل أكثر دقة عن ذي قبل، وأخيراً وليس آخراً، تحسين كفاءة مفاعلات الاندماج النووي التجريبية.
واعتاد الباحثون على استخدام الذكاء الاصطناعي لتوسيع نطاق المجالات العلمية الناشئة، مثل: علم الصوتيات الأحيائية، الذي قد يُمكن البشر من فهم مختلف الأجناس الأخرى، والتواصل معها، مثل الحيتان والفيلة والخفافيش. كذلك، فإن الذكاء الاصطناعي ليس منفتحاً على مسارات الاكتشافات الحديثة وحسب، بل إنه يساعدنا أيضاً على استخدام موارد التكنولوجيا الحديثة بشكل أكثر كفاءة وفعالية.ومن أكثر المقابلات الملهمة التي أجريتها خلال العام الماضي، تلك التي كانت مع لويد ماينور، عميد كلية الطب بجامعة ستانفورد، وأحد أبرز المتحمسين لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أغلب مجالات الرعاية الصحية.وكانت حجته تتمثل في أنه بما أن الإنترنت قد مكنتنا من نشر المعلومات، فإن الذكاء الاصطناعي يساعدنا حالياً على الوصول إلى فهم أفضل بكثير للمعارف.
وقد نجح هذا الإيمان بالمستقبل التكنولوجي في أن يحظى بدعم فكري كبير على مستوى وادي السيليكون. كما أن رواد الحركة التسارعية الفعالة، يدفعون بأهمية المضي قدماً نحو التطور التكنولوجي بأقصى سرعة ممكنة.
ومن بين أهم وأبرز المؤمنين بهذا الفكر، رجل الأعمال مارك أندرسن، المؤسس المشارك لشركة أندرسن هورووتيس لرأس المال المغامر، والذي نشر العام الماضي المانيفستو، أو الإعلان التكنولوجي التفاؤلي.وينتقد أندرسن وفريقه هؤلاء الذين يسعون للحيلولة بلا داعٍ دون التقدم والازدهار، وذلك من خلال ما يبدونه من قلق إزاء الأضرار الجماعية التي تحملها التكنولوجيا الحديثة بين طياتها، مثل المعلومات المضللة، والتمييز، وتعطيل سوق العمل.
ويميل الفريق الأول إلى الإيمان بأن التقدم التكنولوجي يستطيع في الغالب حل المشاكل التي تخلقها التكنولوجيا نفسها (تماماً كما فعلت فلاتر البريد غير المرغوب فيه مع الرسائل العشوائية).ولكن هذا الفكر الفلسفي يقابله رفض واستهجان من جانب العديد من الرموز السياسية. فقد قالت جينا رايموندو وزيرة التجارة الأمريكية، خلال تفسير من جانبها لضرورة إنشاء معهد متخصص في أمن الذكاء الاصطناعي «لا يمكننا أن نتصالح بهذه الطريقة مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، فهي تحمل بين طياتها مخاطر جمّة».
وعند مدى إمكانية أن يكون الجيل المؤيد على صواب، فإن ذلك سيعتمد مبدأ آخر من مبادئ دويتش: ألا وهو نزعة أهل الخير إلى الابتكار والإبداع بوتيرة أسرع من أهل الشر.
يقول دويتش: «يشترك كل أعداء الحضارة في خصلة واحدة، ألا وهي أنهم دائماً على خطأ.. هم لديهم رهبة من تصويب الخطأ، وخوف من الحقيقة، ولهذا السبب، يقاومون التغيير في أفكارهم، ما يجعلهم أقل إبداعاً وأبطأ في الابتكار». ويُعد مبدأ التفاؤل من النظريات المريحة للبشر، رغم أنه غير قابل للإثبات على الإطلاق، فضلاً عن عدم قابلية تقديمه وتنفيذه مع حلول العام الجديد.