جور إسرائيل وتعسّفها صار مشهداً مصوراً وثابتاً ومعروضاً أمام أنظار العالم. والفلسطيني ضحية لا لبس فيها ولا نقاش حول عدالة قضيته. هذا أتاح فرصة لولادة فلسطينية بعد انسداد مديد أصاب القضية.وسط هذا المشهد، قررت حركة “حماس” اختطاف الـ”مومنتوم” الفلسطيني الذي أطلقته ظلامة أهالي حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. نقلت الحركة المدعومة من إيران المواجهة من القدس إلى غزة، وحولتها من انتفاضة مدنيين بمواجهة سلطة احتلال جائرة، إلى مواجهة صاروخية. إسرائيل رحبت بهذه الخطوة، ذاك أنها قدمت لها فرصة للتخفف من أعباء المقدسيين، وأتاحت لها إشاحة الأنظار عن موبقات المستوطنين الذين أذهلت وقاحتهم وجشعهم العالم، وتحويلها إلى المواجهة الصاروخية التي اشتعلت في القطاع.“حماس” بدورها لم تعدَم مصفقين، ذاك أن الداء الشعبوي متحكم بأمزجة ممانعين وبمن اعتقد أنه شفي من هذا الداء وإذ به يستيقظ على وقع أصوات صواريخ القسام!
في بداية المواجهة المقدسية كنا أمام احتمال انتفاضة ثالثة، تحمل من ملامح الانتفاضة الأولى أكثر مما تحمل من ملامح الانتفاضة الثانية. كنا أمام احتلال سافر ووقح، وأمام أحكام قضائية إسرائيلية كان بدأ يتشكل رأي عام عالمي حول تعسفها وعدم عدالتها. العالم كان بدأ يتجاوز في موقفه الاحتلال إلى نظامه القضائي، وإذ بنا اليوم أمام مواجهة صاروخية سينكفئ العالم فيها عن الاندراج في انحيازات لأطرافها. أما المقدسيون فسيجدون أنفسهم في سياق حرب صاروخية لا تتيح مجالاً لأدوار المدنيين.كانت المرة الأولى التي يلتحم فيها فلسطينيو الـ48 مع المقدسيين ومع أهالي الضفة. تقاطروا إلى المسجد الأقصى، وتحدوا سلطة الاحتلال، وعندما قطع الأخير الطريق عليهم، قطعوها هم عن الإسرائيليين المتوجهين إلى تل أبيب. أمام هذا المشهد لا تملك حكومة إسرائيل الكثير لتفعله. القمع هنا مجرد من أي ادعاء بالخطر. قمع عار من أي حق، الفلسطيني فيه ضحية لا لبس فيها، وهو مُدافع عن حقه ببيته الذي ولد فيه. وبسرعة مذهلة بدأت تظهر ملامح الانتفاضة الثالثة، ومن علاماتها اقتصار المواجهة على مدنيين فلسطينيين في مقابل مستوطنين مسلحين، وبين الجهتين يقف الشرطي الإسرائيلي المسلح والمدافع عن منتهك الحقوق. ونجم عن هذا مشاهد يندى لها الجبين لجهة وضوح وجه الجاني فيها وانكشافه.
انتظر بنيامين نتانياهو هدية من رفح، وسرعان ما وصلته. هذه دوامة نعيشها منذ عقود طويلة، فالرجل يعيش على وقع المجزرة المتواصلة بحق الفلسطينيين. نقل المواجهة من القدس إلى غزة فرصة هائلة للرجل المختنق بالعجز عن تشكيل حكومة. الحرب تفتح له آفاقاً وتكسر الاستعصاء. وفي المقابل، تؤمن لـ”حماس” ولمحور الممانعة فرصة لتحويل الاختناق إلى قدر وإلى نموذج يواصلان عبره حكم البؤر الأهلية التي يحكمانها. المقدسيون هم الضحية النموذجية لهذه الصيغة من المواجهة. فالتصفيق للصواريخ سيتوقف مع الهدنة التي ستخرج منها “حماس” “منتصرة”، ونتانياهو سيكون قد اشتغل على نصاب سياسي يتيح له تشكيل حكومة، أو إجراء انتخابات خامسة يحقق فيها تغييراً في عدد مقاعده في الكنيست، معتمداً على رصيد المواجهة العسكرية التي قتل فيها المزيد من المدنيين. ونتانياهو يجيد توظيف الدماء في مستقبله السياسي منذ فوزه الأول في الانتخابات في أعقاب مجزرة قانا. كما ترافق الحدث المقدسي مع كلام في إسرائيل عن ميليشيات يمينية بدأت تظهر، وعن تصعيد للعسكرة ترافق مع شحنات كراهية مضاعفة جعلت من مشهد المستوطن الجائر في حي الشيخ جراح نموذجاً لـ”المواطن الإسرائيلي العادي والمقبول من قبل المنظومة السياسية والأخلاقية”. إنه الإسرائيلي العادي، والمقترع الذي يسعى نتانياهو إلى سرقته من الأحزاب الدينية.
وراء هذا الصدام مشهد أوسع. مفاوضات في فيينا بين الإيرانيين والأميركيين تخلف قلقاً في تل أبيب، وقد تشعر الأخيرة معها بأن توسيع المواجهة العسكرية يضع مزيداً من العقبات أمام المتفاوضين، لكن في المقابل تجيد إيران التفاوض على حافة الهاوية. ورفع منسوب الشروط في ظل الوقائع الميدانية، أمر مغر لمفاوض لا تمت المواجهة الميدانية لحدود بلده بصلة مباشرة.إنها اللحظة التي لطالما كابدها الفلسطينيون طوال مسار مأساتهم مع الاحتلال، ومع موظفي قضيتهم على طاولات مفاوضات لا تمت لمصالحهم ولظلامتهم مع المستوطنين بصلة. نقل مواجهة الاحتلال من القدس إلى غزة يعني نقلها من مواجهة بين مقدسي يعيش تحت الاحتلال ومستوطن جائر ووقح، إلى مواجهة بين تل أبيب وطهران، على وقع مفاوضات فيينا التي تقلق إسرائيل، لكن أيضاً على وقع استعصاء سياسي في إسرائيل دام لأربع دورات انتخابية متتالية.ربما علينا أن ننتظر الهدنة وما ستخلفه في فيينا، لنعرف بعدها مصير أهل حي الشيخ جراح، وما إذا كان بقي متسع من الطاقة لاستئناف “مومنتوم” القدس.