فاروق غانم خداج - 3- 9- 2023
هل انتهى دور الكتاب؟ وهل أصبحت التكنولوجيا قدرا لا مفر منه، ولو على حساب ثقافتنا ونضوجنا؟
أظهرت دراسات حديثة عن الشرق الأوسط الحالة المرعبة التي يشهدها واقع الكتاب والمطالعة، والهجرة التامة إلى الوسائل التكنولوجية؛ مما أدى إلى فراغ كبير في العقول والنفوس إذا صحّ التعبير. وانطوت المشكلة أخيرا على تبيان حالة من الأمية أو الجهل المتعمد عند طائفة كبيرة من شباب المحيط العربي الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عاماً، وقد تتغير الأرقام صعودا أو انحدارا لتشمل فئات عمرية أخرى. وها نحن نجد الأخطاء الكثيرة في كتابات أصحاب اختصاصات متنوعة، وبالكاد أن تخلو رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه من عشرات_ وأحياناً_ مئات الألفاظ غير المناسبة، أو التعابير الركيكة، أو السقطات الإملائية التي تثير العجب عندما تلاحظ أن مرتكبها سيصبح في مقدمة الصفوف التي ستتسلم_ مستقبلاً_ أمور البلاد والعباد.
ولا يمكن أن تصدق أن معلمة تصنّف من الطراز الرفيع لا تستطيع أن تتكلم اللغة العربية الفصحى إلا قراءة عن ورقة، أو استتارا بالمألوف عند أهله. ويكاد يفلقك قول طبيب أنه لا يفقه في العربية شيئاً، بل لا يقرأ من مراجعها مرجعا واحدا. والأمثلة لا تُحصى، و الحالة تزداد تعقيدا. وبالتالي، خلت البيوت المرصعة بالطين الملوّن من الكتب العظيمة التي كنا نقرأها؛ كمجموعات جبران والعقاد ونعيمة والريحاني وأبي ماضي وغيرهم، مرورا بقصص الزير سالم، وألف ليلة و ليلة، وتغريبة بني هلال، وقصة عنترة. فهل صحيح أن الزمن قد عفا على مثل هذه الكتابات ؟ وأين الموسوعات الطبية و العلمية والفلسفية التي كانت تصقل عقول أبنائنا، وتدربهم على فنون اختبار الحياة ؟
قرأ مايكل دبغي الطبيب اللبناني العظيم 200 كتاباً؛ منها الموسوعة البريطانية بأكملها قبل أن تتفتق عبقريته، ليكون واحدا من أفضل عشرة أطباء في العالم. ونلاحظ أن معظم أدباء وشعراء النهضة العربية لا يحملون شهادات عليا، بل أن المطالعة هي التي رفعت درجاتهم الى مستوى العظماء؛ حتى قال الأديب مارون عبود:
" احذروا صاحب الكتاب الواحد" ( أي الذي يطالع بشكل دائم)، فهو مثقف صاحب معرفة يستطيع أن يزاحم بها أصحاب أعلى الشهادات. وعلى هامش هذه الحالة المزرية، سادت التكنولوجيا، وغطت على صفحاتها أخبار الموضة الفاقعة، والفن الهابط، والنكات الثقيلة. وباتت العائلة متحللة من روابطها. فكل فرد منها له اختياراته الخاصة، ولا أحد يهتم بغيره. شعر الأب أنه يمتلك من خلال تلفونه عالما خاصا يرضي حالة بطالته المتراكمة الأعباء. وهذا الأمر ينطبق على أمّ منحت أولادها تلفونات متصلة بالشبكة، لتتفرغ هي الأخيرة إلى تلفونها، منخرطةً في مجموعات تقودهن سيدات يتبادلن أخبار وأحداث أيامهن الغريبة، لتعبئة فراغ لا مفر من وجومه.
انتهى زمن المطالعة، ولا أحد يفكر بانشاء مكتبة صغيرة في منزله، ليعوّد أولاده على البحث والتحليل، وليتخذ الدربة والمران سبيلا لترقيتهم في المستقبل. سقطت الحالة الإبداعية إلى الحضيض في دول العالم الثالث ، الذي يصنّف في قعر التخلف والجمود. وحازت دول الغرب المدرجة في قمة الصعود التكنولوجي على جوائز البحث العلمي والأدبي الأولى في الكتابة والمطالعة والتوجيه الإبداعي. ورأينا عشرات الروايات العربية _ ومنها روايات نجيب محفوظ _ تترجم إلى لغات أخرى. ويصيبك الذهول عندما تعلّم أن المترجمين أجانب يدرسون العربية، ثمّ ينقلون أثارها إلى لغاتهم، حتى أصبحوا أسياد الحضارة العربية الكونية بلا منازع، وهم على علو مقامهم العلمي، لا يتأففون من دراسة اللغات، ومنها لغتنا الأم. وهذا هو بيت القصيد: فنحن لا نخترع ولا نبدع، ولا نستطيع اصلاح هاتف نقال إذا تعطّل، ونهوى خِيار البنطال الممزق القادم إلينا من هواة غربيين منبوذين في مجتمعاتهم، ولا نهوى قراءة قصيدة شعرية، أو معلومة طبية، أو حقيقة علمية. بل نريد كل شيء جاهزاً ( على قاعدة شرايته ولا تربايته)، وعالم الشمال يجردنا من أدنى مهارات العلم والعمل، مقابل إغراق سوقنا بمنتوجاته ومغرياته، وولاة أمرنا الذين لا يقرأون اشتروا ضلالتنا بمقاعد حكمهم المحفوفة بالجهل، استنادا إلى القول المشهور: " أبغض الممالك مملكة شعبها على اللذة متهالك، وملكها مسلك الرعاع سالك".
ختاما، قد نبدأ_ في خطوة أولى من تلقاء أنفسنا_ بإنشاء مكتبة صغيرة في كل بيت لنعود إلى المطالعة. ويكون ذلك بدعم من المدرسة التي تستفيد من هذه الخطوة كثيرا. ومن الدولة وأصحاب الثروات، لتعم هذه الظاهرة كل البلدان العربية، ولنتعلم من تجربة بعض الدول الأوروبية التي تدفع الملايين لتعزيز مثل هذه الظاهرة. وليفهم دعاة المعرفة عندنا أن الحضارة العربية الذهبية أشرقت شمسها من كتب مقروءة، ومن بعض الترجمات اليونانية التي جعلت أوروبا تعتمد عليها أيّ اعتماد. ولولا ذلك لما انسمى علينا عصر ذهبي ولا من يحزنون. فهل هناك من يسمع _ من أرباب عصرنا وثقاته_ هذا الكلام، ليعيد إحياء هذا التراث ويجدّده؟!