ايمان ابو شاهين يوسف - 26- 5- 2023
دعا ابن خلدون في مقدمته الى ضرورة إعمال العقل والنقد والابداع في النظر الى الأشياء كمخرج وحيد لنهضة الشعوب مركّزاً على جودة التعليم وطرقه. وبرأيه ان المبادئ الأساسية لجودة التعليم تعتمد على النظر والتفكير والتحليل، حيث يقول: "وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلّم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته". وبهذا يؤكد ابن خلدون ان التعليم صناعة بشرية تستفيد من خبرات الحضارات المتعاقبة لتحسين الإنتاج الوطني.
اما الجودة فهو مفهوم تَطوَّرَ مع قطاع الصناعة والإنتاج الصناعي، اخذت به المؤسسات التعليمية استنادا الى نجاحه في القطاع الصناعي. وعندما نتكلم عن الصناعة نكون ضمنا نتكلّم عن مسيرة طويلة من العمل المتميّز بالإبداع والتطوير الذي انتقل من التفكير النظري الى التفكير العملي للإنتاج الذي يتعامل مع الطبيعة ويغوص في عوالمها لفهم ومعرفة اسرارها من اجل السيطرة على عملية التعامل مع ثرواتها وكنوزها.
وما يريد توضيحه ابن خلدون في هذه المقدمة هو، ان الشيء الوحيد الذي يمكن ان يساعد الانسان على تحصيل وتكوين رصيد معرفي نافع هو العلم. والعلم بدوره كناية عن جمع الملاحظة والتحديد والتقصي المبني على التجربة والتفسير من خلال النظريات لظاهرة ما. ومن خلال العلم نستطيع الوصول الى المعرفة التي قامت في الأساس على التجربة بعد التأكد من صحتها. لهذا قال بان العلم مبني على خبرات الحضارات المتعاقبة، هذه الخبرات التي بدورها لم تحصل لولا العلم الذي ساهم في التغييرات التي حصلت في تاريخ البشرية والتي ارتكزت على المعرفة، هذه المعرفة التي جاءت بعد العدم او بعد الجهل بالأشياء المحيطة حيث كانت خافية غير مدركة ثمّ ظهرت نتيجة العلم وصارت واضحة الادراك والوعي.
اذن ان الأساس في قيام اية حضارة انسانية او تاريخ بشري هو العلم. هذا العلم الذي وجد منذ وجود البشرية ومنذ بداية خلقها حيث جاء في القرآن الكريم " وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة"(صورة البقرة 31). ومن ثمّ تطور العلم مع مرور الزمن وزيادة الخبرات والتجارب بين الناس. هذا التطور كان في البدء على المستوى الافقي بحيث تغيرت اولاً الظروف الاجتماعية والاقتصادية والقانونية على مستوى كل حضارة، بدءا من اقدم الحضارات الى يومنا هذا. وعليه فإننا نجد بان الانسان تعلّم في حضارة بلاد ما بين النهرين 3300ق.م كيف يزرع ويهتم بالحيوانات وكيف يبني السدود والاقنية ويضع القوانين... وقد عرف الكتابة المسمارية وغيرها الكثير، وهذا مبني بالتأكيد على ما سبقه من تجربة إنسانية او ما رافقه من تجارب لحضارات معاصرة ساعدت انسان تلك الحضارة على التعلّم والمعرفة.
وفي الحضارة الفرعونية القديمة عرف الانسان الكتابة الهيروغليفية وورق البردى. وتركت هذه الحضارة العديد من الاثار مثل المعابد والاهرامات والرسوم والتحنيط وعلم الفلك والحساب...
وحضارة المايا التي عرفت الكتابة على الأحجار وتسجيل التقويم الشمسي وتميّزت بالثقافة العالية....
والحضارة الصينية القديمة حيث اهتمت بالأدب والثقافة والأمور الفلسفية والزراعة وبناء الترع والاقنية والسدود (سد الصين) ...
وحضارة اليونان القديمة حيث اهتم اليونانيون في العصر القديم بالزراعة ثم استخدموا الحيوانات في تسهيل أعمالهم وبناء المساكن ....
وحضارة بلاد فارس القديمة حيث كان الفرس من الحكماء الذين اهتموا بالعلم وبالشؤون العسكرية فتفوقوا على الاغريق واحتلوا أراضيهم كما احتلوا جزء من الهند ومصر.
والحضارة الفينيقية التي اكتشفت صباغة الارجوان والاحرف الابجدية التي نشرتها في كل بلاد وصلت اليها....
وهكذا فإن الانسان منذ وجوده على هذه الأرض وقبل ان يعرف الكتابة بدأ ينظر من حوله فيفكر ويحلّل ويسعى لتأمين عيشه فصنع فأسا من الحجر واكتشف النار وأخذ من المغاور مسكنا له. وتابع في التقدم والتعلم والتأقلم مع بيئته الخارجية حتى أصبح اكثر معرفة وعلما نتيجة العمل والخبرات التي كان يكتسبها مع الأيام والسنين. وتدل الاثارات على ان الانسان القديم تمكن من صنع الاواني المنزلية من الفخار والأسلحة اليدوية وشيئا من الثياب التي كان يصنعها من جلد الحيوانات او بعض النباتات، حتى توصل الى معرفة الكتابة التي سبقها عملية تصوير الأشياء او حفرها على الصخور للدلالة على الشيء المقصود. وبعد معرفة الكتابة بدأنا نسمي التاريخ البشري وتجربته بالحضارة، التي كان فيها للعلم الدور الاساسي في التغيير على المستوى الافقي للمجتمعات القديمة.
عام 1987 م حصلت الثورة الصناعية في أوروبا، وكانت أسبابها متعاقبة متراكمة على مرّ سنين طويلة نتيجة تراكم التجارب والخبرات والمعارف والاكتشافات والاختراعات والابحاث وصناعة الآلات، التي سهلت عملية الإنتاج وادت الى زيادة السلع، فنشطت التجارة العالمية واتسعت الأسواق وحصل تغيراً عاموديا في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وظهرت طبقات اجتماعية جديدة وتغيرت حاجات الناس ومطالبهم وانتقلت البشرية من النظام الاقطاعي الى النظام الرأسمالي اقتصاديا وهذا هو ما يسمى بالتغيير العامودي للحضارة أي الانتقال من الملكية الى الديمقراطية.
والذي أسس لهذه الثورة هو، تلك الأجواء العلمية والحركة الفلسفية الناشطة التي كانت تسود اوروبا. وقد مكّن النشاط العلمي من الوصول الى اهم الاختراعات التي غيرت وجه البشرية واهمها:
الذكاء الاصطناعي وهو نتيجة تطور العمل على شبكات الكمبيوتر والذي يسير بسر وتطور هائل وقد انتقل من التطبيق النظري الى التطبيق العملي وبتنا نجده أساسيا في الطب وعلم الفلك والهندسة والكتابة وحديثا في التأليف والتلحين والغناء الذاتي وغير ذلك الكثير ...
بالتأكيد ان تطور العلم والمعرفة ترافق مع تطور المؤسسة التعليمية التي هي نتيجة لطلب العلم وحاجة الناس اليه. والعلم بحد ذاته وكما اسلفنا ليس بالأمر الحديث، بل انه موجود منذ بداية الخلق "وسبحانه تعالى هو من علّم آدم الأسماء كلها" ثم صار التعليم ينتقل من الفرد الى الفرد الاخر، فربّ العائلة مثلا يعلّم ابناءه. أما الاسر الحاكمة فكانت تأتي بمعلّم لتعليم أبنائها. ومع انتشار الفكر الديني بدأت المراكز الدينية بفتح أبوابها لتعليم العبادة كمدرسة الارقم بن ابي الارقم في مكة حيث كان الرسول (صلّ الله عليه وسلّم) يجلس في دار الارقم ويجتمع المسلمون من حوله ليعلمهم ويزكيهم. كما كان اسرى المسلمين يفتدون انفسهم بتعليم أبناء المسلمين وهذا للدلالة على أهمية العلم عند المسلمين واعتبر من يسعى الى العلم كمن يذهب للجهاد. وقد ورد مرادف علم ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي ثمانمائة وستة وخمسين مرة ، ولا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من الحديث عن العلم سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة ، ولشدة اهتمام المسلمين بالعلم خاصة الديني واللغوي منه، فقد حفظ القران أيام الرسول جمعا غفيرا كان بينهم الخلفاء الأربعة وعدد كبير من القادة المقربين من الرسول والسيدة عائشة ام المؤمنين والسيدة حفصة وأم سلمة، وقال الرسول( صلى الله عليه وسلّم) عن السيدة عائشة : " كَمَلَ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام." وذلك بفضل زهدها وسخائها وعلمها الغزير.. والتعليم بداية في كل الحضارات كان يقتصر على الذكور وعندما ظهرت المدارس العامة صار للذكور مدارسا خاصة ولبعض الفتيات مع أبناء العبيد صفوفا أخرى.
ما يجب التركيز عليه هو مرحلة الحكم الفاطمي حيث اهتم الفاطميون جدا بالعلم والمعرفة وأنشأوا الجامع الازهر في القاهرة سنة 970م. على يد القائد جوهر الصقلي قائد الخليفة المعز لدين الله ليكون منارة للعلم والمتعلمين وقد حقق ذلك الهدف خصوصا في زمن الحاكم بأمر الله الذي عرف باهتمامه الشديد بالعلم والادب تمشيا مع تعاليم القرآن الكريم، فاهتم اهتماما مميزا بتطوير وتوسيع الجامع الازهر ليتسع الى اكبر عدد من المتعلمين والعلماء وجمع اضخم مكتبة للكتب والمؤلفات. كما وانشأ دار الحكمة سنة 1005م. على غرار بيت الحكمة الذي كان موجودا في بغداد أيام حكم الخلفاء الراشدين والذي أحرقه المغول أيام الحكم العباسي. والحاكم بأمر الله كان معروفا بالسماحة وبعد البصيرة " خير دليل على ذلك، المرسوم الذي أصدره للتوفيق بين المذاهب المختلفة عام 1008م. واستشهد بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم بأنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تفعلون".
الحاكم بأمر الله كان يتصف بحدّة الذكاء، وحبّه للعلم والعلماء، ولكلمة الصدق، والبر، والوفاء. وهو الذي أكدّ بأن المجتمع لا يستطيع ان يخفق ويعتلي إلا بجناحين "الرجل والامرأة " تمشيا مع توجه النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) الذي كان يزوّد اهل بيته ذكورا واناثا بالعلم والمعرفة على حدّ سواء ولهذا اشتهرت زوجته ام المؤمنين وابنته فاطمة الزهراء بغزارة العلم وبعد البصيرة ولشدة تقدير الحاكم بأمر الله للسيدة عائشة ام المؤمنين ( رضي الله عنها) ولفصاحتها وغزارة علمها وزهدها وتعبدها، وللسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) لغزارة علمها ومعرفتها العميقة وثقافتها الواسعة وبصيرتها الثاقبة حيث كانت تتلقى العلوم والمعارف الإسلامية من ابيها رسول الله( صلى الله عليه وسلم)". طبق الحاكم بأمر الله المساواة بين الرجل والمرأة ودفع بكليهما للعلم والمعرفة حيث كانت بعض النساء تحضرن محاضرات العلماء في الجامع الازهر اولاً، ثمّ أنشأ لهنّ مدرسة خاصة بالفتيات في الجامع الازهر وهي بذلك اول مدرسة مستقلة للبنات في العالم، حيث اصبحت الفتيات تتعلمن كما يتعلم الصبية، وهذا ما أثر بفكر ابن رشد اكثر من تأثير افلاطون في كتاب الجمهورية وأرسطو في كتاب السياسة حيث قال: (يصح ان تقوم النساء في المدينة بأعمال هي من جنس الاعمال التي يقوم بها الرجال او بعينها ... فالنساء والرجال من نوع واحد في الغاية الإنسانية فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم في الأفعال الإنسانية وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف). وهكذا فقد نادى بالمساواة بين المرأة والرجل ودعا الى تحرير المرأة من قيود الهيمنة الذكورية التي كرست عند العرب فكرة "ان المرأة وعاء للإنجاب" التي اخرجتها من دورها في العمل الإنساني، وهذا بنظر ابن رشد السبب لتخلف وتراجع التطور في العالم العربي.
وهكذا نجد ان الموحدين الدروز قد سبقوا كل الأمم من غربها الى شرقها في الدعوة الى المساواة بين المرأة والرجل خصوصا على المستوى التعليمي الذي هو أساسا لنهضة الشعوب وتقدمها.
هذا الامر الذي غاب عن فكر الامة العربية التي بدأت حديثا تستيقظ من نوم طال كثيرا، ففوجئت بتحديات جمّة وصعوبات كثيرة عليها ان تجتازها لكي ترافق ركب التطور والتقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم، حتى تستطيع على الاقل الحفاظ على بقائها قبل ان نقول ان تبدأ المشاركة في السباق بالمنافسة المعرفية العلمية خصوصا التطور غير المحدود للذكاء الاصطناعي الذي فيه خلاصة للذكاء العالمي بأكمله . وما نقوله عن الدول العربية ينطبق على مجتمع الموحدين الذي هو جزء من المجتمع العربي، إذ يطلب منهم المزيد من التعلم والانطلاق حتى يصبحوا رقما مميزا في هذا العالم. وان يحققوا رؤية الحاكم بأمر الله في التعلم والمساواة والحفاظ على القيم والمبادئ التي تجعلهم منارة للآخرين.
وكما يقول المثل: لا تيأس اذا رجعت خطوة للوراء فلا تنس ان السهم يحتاج ان ترجعه للوراء لينطلق بقوّة الى الامام.
ويقول تعالى:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة 11)
أما بالنسبة للمدارس القديمة المهمة فهذه عينة منها:
- مدرسة شيشي المتوسطة في الصين وتأسست بين عام 143 الى 141 قبل الميلاد.
- مدرسة كانتربري تأسست في إنجلترا عام 597م.
- مدرسة كينجز روتشستر تأسست في انجلترا عام 604 م.
- مدرسة بيفرلي النحوية تأسست في بريطانيا عام 700 م.
- مدرسة بولينوم تأسست في المانيا عام 797م.
- مدرسة الألعاب الرياضية بولينوم أنشأت في المانيا عام 797م.
وبكل تأكيد إن انتشار الكتب والصحف والمجلات واكتشاف الهاتف والراديو وبعده التلفزيون ساعد على تلاقح العلوم البشرية وتطويرها حتى وصلنا الى المرحلة الحديثة من التاريخ الذي سميّ "بعصر الثورة التكنولوجية العظيمة". هذه الثورة التي عصفت بكل شيء وأدخلت العالم بأكمله بحالة من الفوضى التي يسميها البعض الفوضى البناءة وراحت الشعوب تستنسخ ما تريد من السلوكيات وترمي بالكثير من القيم والعادات وتستسلم لجاذبية هذه الاكتشافات خاصة اكتشاف الانترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت التواصل بين جميع أبناء الأرض وساهمت في الانفتاح على الآخر والتخفيف من حدة العنصرية، كما سهلت المعاملات الإدارية والتجارية، ووضعت المكتبات العالمية بخدمة كلّ مريد..... والامر المضيء في هذه الثورة هو تطور علم الذكاء الاصطناعي ودخوله بفاعلية في كلّ الحقول المعرفية خصوصا على مستوى الطب واللغة والآلات جميعا. وبتنا نأمل ان يأخذ هذا العلم موقعا رياديا في خدمة الإنسانية وإنقاذ كوكب الأرض من كوارثه المناخية ومساعدة الانسان على إعادة التوازن لدورة الحياة على الأرض وتمكينه من مقاومة كل الاخطار التي تحدق به وعلى رأسها الأوبئة والامراض. كل هذا لن يحصل الا بالعلم والمعرفة التي نتمناها ان ترتقي وتزدهر في مجتمعاتنا لتنطلق وتعتلي بين جميع الأمم.
وقد قال لقمان الحكيم في وصيته الى ابنه: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة.
المراجع
- القرآن الكريم
- كتاب ابن خالكان
- كتاب المقريزي في الخطط
- كتاب الازهر في الف عام – د. محمد عبد المنعم خفاجة – عالم الكتاب بيروت ص29
- التمدن الإسلامي- جرجي زيدان
- مقدمة ابن خلدون
- اقدم عشر مدارس في العالم – الموضوع – مقال الكتروني
- صحيح البخاري
- ويكيبيديا
- العربية
- الوثائقية
- ابن رشد والرشدية – ارنست رينان - ترجمة عادل زعيتر
- بصائر في العلم والمعرفة – عبد الكريم بكار
- كتاب الذكاء اصطناعي pdf