«ضَرَبَ» ما بين المعجم وَالوَاقع


 الدكتورة ليلى أبو شقرا - 7 - 2 - 2022


   ما بين إصابة الشيء وَصدْمه، وَالتخطّي في الزمن، وَتسلُّط البعض على البعض الآخر، وَالمعرفة بِبوَاطن الأمور، وَالخلْط وَالمزْج، تتنوَعُ دلالات اللفظ «ضَرَبَ» ما بين المعنى الحقيقي وَالمجازي الذي ينتهي إليه في ذاك السياق أَوْ ذاك. 

 وَالعربية قد عرَفت منذ أنْ عُرِفت، معانٍ حقيقية معجمية وَضعت اللفظ في أصل اللغة، وَمعانٍ مجازية ينتقل إليها المعنى موسِّعًا مِنْ دائرة الحقيقة إلى المجاز وفقًا للسياق الذي يُبدعه الكاتب خدمةً للغاية التي يتوَخّاها، وَلطالما كان المجازُ ميزةً للدلالة في التراكيب العربية، إذْ يمكن للعبارة أنْ يتسِّعَ معناها إلى آفاق جديدة تبتعدُ عن المعنى الأصلي إلى حيث يمكن لعبقريةِ الكاتب أنْ تصل بتمكُّنها مِنَ اللغة وَفنونها وَعلومها.  وَما بين الحقيقة وَالمجاز اجتهاداتٌ تنعكس على حياة الإنسان، تتحكَّم به ربّما، أَوْ تؤطِّره، اِنطلاقًا مِنْ فلسفات معيّنة عقلانية أَوْ عقائدية أَوْ اجتماعية أَوْ عُرفية أرستْ نفسها ثوَابتَ في حياة الجماعة التي يَنتمي إليها الإنسان؛ في ما يُمكن أنْ يكون عاملاً في التمييز، وَالظُلمِ، وَلعلَّه في التقدُّم وَالعدل. على أَنَّ بعض الحقيقة وَالمجاز الذي ارتبط بالفعل «ضَرَبَ» ضَرَبَ نصف المجتمع، وَضُرِبَ ذريعةً لجرائمَ كثيرةٍ تُرتكب بحق المرأة، ابنةً، وَأختًا، وَزوجةً، وَأمًا كذلك. 

وَعلى الرغم من المعاهدات وَالموَاثيق الدولية التي تنادي بحقوق الإنسان وَمنه الطفل وَالمرأة، إلاّ أَنَّ العنصر الأنثوي لأي فئة عمرية انتمى لا يزال يُعامل في مجتمعات كثيرة وَكأنّه مِتاع يُباع وَيُشترى، يحقُّ للذكر أنْ يتصرّفَ به كيفما يشاء، مُلقيًا بإنسانية الأنثى جانبًا، وَعقلِها، وَمشاعرِها، وَكينونتها، لأسبابٍ يَنقُضُها العقلُ وَتنقضُها الإنسانية.

 استخدامات دلالات «ضَرَبَ» في أرض الوَاقع لا منطلق لها إلاّ اضطراب مفهوم الإنسانية عند العنصر الفاعل، فالأنثى في هذه الحالة مفعول به، تلقى الأذى وَالتعنيف الذي يصل إلى حدّ القتل، تحت مسميّات «التأديب» وَ« الدفاعِ عن الشرف» وَكأَنَّ الفاعلَ لا يحتاج للتأديب، وَكأَنَّ الفاعل وَحده من يملك الشرف! 

 هذا الفاعل في حال شذوذه وَنشوزه لا يُعمدُ إلى تأديبه، وَإذا أساء وَخان لا يُقتل تحت مسمّى الشرف، فالأنثى بحكم القوَة عليها أنْ تتقبّل نشوزه وَخيانته، أَوْ تطلب الطلاق، الذي قد يُقابل بحُكمِ طاعةٍ يُعيدها إلى عصمته لتتابع في عيش الذل وَالإهانة، لأنها ترى في نشوزه وَخيانته إهانةً لكرامتها وَوجودها وَإنسانيتها. وَأمام الإصرار على تبرير «ضَرَبَ» وَتبعاته، دلالةً تعيينية وَتضمينية، لا يُمكن القول إلاّ أَنَّ هذا التبرير بإصراره دليل على نفسٍ مريضة، لا يُمكنها أن تستحقَّ المحبة بحُسن التعامل، وَلا الفوز بالاحترام بجودة الموَاقف، وَلا الانتصار بالحب بتقديم الحب، لذلك، وَلضعفها وَضعف المروءة وَالعقل وَالإنسانية فيها تعتمد العُنفَ، وَممارسة الفوقية على الأنثى، وَقمعها… أي «ضَرَبَ» بكل معانيه، الذي قد لا يتوَقّف عند البعض إلاّ برصاصةٍ تُطلق على رأس الأنثى إذا ما انتصرت لنفسها وَحقّها بالاختيار، وَالقاتل أخ وَأب وَابن عم يكبّر وَيصرخُ صراخ المنتصر مع صلاح الدين عند فتح القدس! 

المشكلة ليست في اللغة، بل في فشل من يمكّنون هذه المفاهيم من أنْ يَعقِلوا غرائزهم، الذين وَلتبرير فشلهم هذا في أن يعقلوا، ألبسوا المرأة الغوَاية من رأسها حتى أخمص قدميها، فكلها عورات، وَالعورة في أنهم لا يَعْقلون ما يجبُ أنْ يُعقَل، حمَّلوها مسؤولية زلاّتهم وَأخطائهم لأنَّهم يخشون شجاعةَ الاعتراف بالخطأ، اعتبروها مُلكًا متاعًا يتصرفون به كيفما يشاءون لأنهم متيَّقنون من أنَّها تملك من القوة وَالسَّناء وَالرفعة ما لا يتمكَّنون منه! فكم من امرأة هي أم وَزوجة، وَطبّاخة، وَقائمة بأعمال تنظيف منزلها، وَغسل ملابس عائلتها، تسهر على طفلها المريض حتى يطيب، وَتحمل أعباء هموم الزوج منصرفة عن همومها… وَفوق كلّ هذا هي موظفة عاملة قادرة على التوفيق بين كلّ هذه المهمات داخل البيت وَخارجه؛ محكّمة عقلها وَقلبها وَقدرتها على الاحتمال وَالمسامحة وَالعطاء من دون حدود وَالتضحية من دون أنْ تطلب مقابلاً سوى المحبة وَالتقدير وَالاحترام. 

هذا الذي يبرر «ضَرَبَ» بأي معنى ليمارسه على الأنثى، هوَ كائن انتفت فيه الرجولة لصالح الذكورة، يتخذ من العنف وَسيلة لفرض الاحترام وَقد غفِلَ عنْ أَنَّ التسلّط لا يبني المحبة وَلا أي نوع من أنواع الاحترام، فالتسلُّط يبني الخوفَ فحسب وَيمكِّن البغضَاء وَدُعاء المظلومةِ على الظالم … 

هذا الذي يبرر «ضَرَبَ» بأي معنى ليمارسه على الأنثى ينسى أَنَّ الأنثى أنجبته، وَمن دونها لما كان على قيد الحياة! وَأَنَّ الأنثى هي التي أنشأته! وَأَنَّ الأنثى هي التي سهرت عليه حتى طاب، وَمسحت عن خديه الدموع صغيرًا حتى اشتدّ عوده! وَأَنَّ الأنثى هي التي تشاركه الحياة وَتصبر على شدائدها معه وَتبني معه مستقبل الحياة! وَأمامَ ما يُثار اليوم عن مسوّغات «ضَرَبَ» وَكيفياته في تبرير هذه الممارسات على النساء يبرُزُ خوفُ الفاعلِ من المفعول!  

إذا كانت الأنثى قَدْ خُلقت من ضلع آدم، فمن قُرب القلب إذًا، لتُحبَّ وَتكرّم لأَنَّ الضلع إذا مرِضَ أثّر على عمل الرئتين وَالقلب… وَأماتَ…  المشكلة ليستْ أبدًا في اللغة بحقيقتها وَمجازها، المشكلة كانت أبدًا في غرائزَ لا تُعْقَل!