هيسم جادو أبو سعيد 6-2-2022
بدا له اليومُ حتى مقابلته الشاب الأول يوماً عادياً... بارداً... مكفهراً بالغيوم التي اعتادت أن تعد بالمطر دون أن تفي بوعودها... مكتظاً بأعباء العمل...
عمله مدرساً في المدرسة حتى الظهر، ثم توجهه إلى أول دروسه الخاصة، دون أن يمر ببيته لاستراحة قصيرة أو لتناول الغداء... صبره الذي لا يسمح له أن يعيل أمام تبلد طفل يحاول أن يستخلص نتيجة من ركام معلومات لا يرى لها بداية أو نهاية أو ترتيباً أو فائدة، كأنه يبحث عن قشة في كومة من الأبر تدميه... خروجه ماشياً منتقلاً من غضب مكبوت إلى حزن مشنوق إلى إنهاك متحامل... شاكراً الإله على الدوامة التي وضعه فيها كونها تؤمن له الحد الأدنى من المال اللازم للبقاء حياً...
لكن اليوم صار مختلفاً مذ قابل ذاك الشاب الحائر... كان قد أنهى أحد دروسه الخاصة وودع الطالب وأهله مع كثير من التوصيات وكلمات التشجيع، وخرج من المنزل ليأخذ طريقه ماشياً كالعادة إلى منزل طالب آخر، ليقابل ذاك الشاب قرب برج "الخريج" ليستوقفه:
- لو سمحت...
توقف منتظراً الطلب الذي سيتلو تلك العبارة المهذبة المترددة:
- من أي اتجاه أستطيع الوصول إلى السوق؟
بدا السؤال ملتبساً ويحتمل أكثر من إجابة، بعد أن كبرت المدينة وصار فيها أكثر من سوق، فحاول إعادة صياغته ليفهمه أكثر:
- تقصد ساحة السير ومبنى المحافظة؟!
رفع الشاب عينيه نحو السماء كأنه يستجدي المساعدة من الإله، فاتحاً فمه نصف فتحة، ليسمح للكلمات بالخروج بكامل راحتها، لكن الكلمات ظلت متزاحمة خلف البوابة المشرعة! مرت لحظات صمت قبل أن يعاود النظر في اتجاه السؤال المعاكس الذي باغته ليجيب بحيرة أكبر وبتردد أكبر:
- نعم...
عندها أشار له أن يتجه نحو الغرب حيث ساحة "تشرين"، وهناك سيكون مبنى المحافظة قريباً جداً... ابتسم الشاب ابتسامة شاحبة وتردد لحظات أخرى قبل أن يميل قليلاً نحو الغرب، ثم ليتجه، وكأنه غيّر رأيه فجأة، نحو الشرق في الاتجاه المعاكس!!
- أعان الله الناس...
دعا في سره وهو يعود إلى حث خطاه كي لا يتأخر عن درسه التالي، ثم هزّ رأسه هازئاً ليقول وبصوت مسموع هذه المرة:
- وأعاننا معهم...
ولم يكترث إن كان قد سمعه أحدهم أم لا، فقد كان على يقين من أن لكل من المحيطين به همومه الخاصة ودعواته الخاصة وحيرته الخاصة... واستوقفته الكلمة لتثير حيرته... حقاً بدت الحيرة اليوم على كل الوجوه أكثر كثافة وزخماً... أشد إزكاماً وإبهاراً!!
وعاد للتطلع إلى وجوه المارين به كي يتأكد من إحساسه المباغت... قلّة منهم كانوا سائرين... الكثيرون كانوا يقفون عند مفترقات الطرق يستوقف أحدهم الآخر ليسأله عن الطريق، لتبدو الحيرة مضاعفة على وجه السائل والمسؤول!! وقبل وصوله إلى ساحة "تشرين" استوقفه شاب آخر:
- هل تسمح؟!
وهز رأسه سامحاً:
- كيف أصل إلى حيث تقف الحافلات المتوجهة إلى مدينة "صلخد"؟!
ومرة أخرى لفّت الحيرة خيوطها العنكبوتية اللزجة حوله، فالحافلات التي تتوجه إلى صلخد يمكن أن تكون في مركز الانطلاق الموحد (الكراجات العامة)، ويمكن أن يتسرب بعض منها ليتلقف الركاب قرب الفندق السياحي، لكنه قرر أن يدله إلى المكان المحتمل الأقرب، فأشار للشاب السائل في الاتجاه الذي يجب أن يتبعه نحو الفندق السياحي، ليستعير الشاب السائل ابتسامة سابقه الشاحبة نفسها ويهمّ بالمسير في اتجاه الإشارة التي حاولت أن تهديه، لكن... وبعد لحظات تردد، ليتجه مخالفاً في طريق يبعد به عن هدفه أكثر فأكثر!!
رفع كتفيه وزمّ شفتيه حائراً، ونسي الطريق الذي عليه أن يسلكه هو الآخر نحو درسه التالي، وغرق في تأمل الوجوه المارة به هائمة على غير هدى... وفي طريقه المرتجل تعرض إلى أكثر من سؤال... صارت الأسئلة أكثر صعوبة، فراح يهز رأسه نافياً معرفته بالأماكن التي كان يُسأل عنها! نسي درسه التالي... دفعةَ المال الصغيرة التي ستقيته مع عياله وجبة أو أكثر... وجوه الطلاب التي تفيض باستجداء الخلاص من حضوره الثقيل مع معلومات الكتب السمجة! نسي الطرقات الواسعة التي كان يمر بها كل يوم... نسي الدروب والأزقة الضيقة التي تختصر عليه بعض المسافة في مشاويره الطويلة... ثم... على حين غرة, وجد نفسه ضائعاً!!
توقف متجمداً خوفاً من أية خطوة تالية تقوده أبعد فأبعد في ضياعه... نظر حوله بتمعن... بكثير من التمعن, لعله يتعرف المكان الذي وصل إليه... بدا الطريق ككل طرقات مدينته الصغيرة ضيقاً ملتوياً مترباً لا رصيف يحاذيه ويهديه... وعلت حوله الأبنية التي تكسوها رتوق متباينة الألوان من الأحجار السود أو البيض أو من طين تساقط جزء كبير منه عنها، فضاعت ألوانها ومعالمها، بينما اكتظّت شرفاتها، بدلاً من أن تكون فسحة للتنفس، بخزانات الماء وخزانات المازوت وأوعية البنزين لادّخارها إن وُجِدت، وبمولّدات كهربائية صاخبة إن وَجَدَتْ ما يقيتها من وقود، وبصحون لاقطة للمحطات الفضائية المتصارعة حول المعاني التي لا معاني لها!!
دوّخه المنظر... لم يعرف المكان... فكر بالرجوع... تساءل:
- إلى أين؟!
فكر بالتقدم أكثر... تساءل أيضاً:
- إلى أين؟!
ظل متسمراً في مكانه فترة بدت له دهراً، حتى نسي الاتجاه الذي أتى منه والآخر الذي كان يقصده، خصوصاً مع دورانه حول نفسه كبرغي مكسور الأسنان, بحثاً في الحي الغريب عن صوى تهديه!!
لم يعد هنالك معنى لكلمتي الرجوع أو الاستمرار بالمضي قدماً!!
وأخيراً استجمع شجاعته التي كبلها الرعب من ضياعه... سيستوقف أحدهم ويسأله عن... وصفعه النسيان... عمّ سيسأله؟! عن عنوانه طبعاً... ولكن أين عنوانه؟! تبادر إلى ذهنه الملعب البلدي... وسأل نفسه: - هل يقيم قربه؟! طفح الرعب أكثر... هل نسي حتى عنوانه؟! هل يقيم قرب الملعب البلدي؟! أم أن منزل أحد طلابه هناك؟! هل يقيم قرب المشقى الوطني؟! أم قرب الخزانات؟! أم على الأطراف البعيدة للمدينة؟!
خشي أن ينحدر به النسيان إلى الحد الذي ينسى معه من يكون، فاندفع نحو أول مار به وقد كسته الحيرة، ليسأله عن أول ما خطر في باله... عن مراكز الانطلاق الشمالية... فقد قرر أن يصل إلى هناك ثم أن يعيد ترتيب أفكاره من جديد، لعله يستدل على نفسه بعد أن وجد مكاناً يعرفه... هزّ الشاب الذي استوقفه رأسه منتظراً السؤال... طرح سؤاله بكثير من التردد... بدا التردد على الشاب أيضاً، لكنه أشار في اتجاه الطريق الصاعد...
همّ بالانطلاق صاعداً لكنه تردد... "يبدو هذا الشاب الذي سألته أكثر ضياعاً مني! لربما كان مخطئاً! لربما كان يحاول إخفاء جهله بادعاء المعرفة! لن أتورط بالمسير في الاتجاه الذي أشار إليه! ستكون وجهتي على الأغلب في هذا الاتجاه..."
وانطلق في الاتجاه الآخر...