ايمان ابو شاهين يوسف - 23- 5- 2023
الطريق الى بمريم فيها شيء من القداسة أشبه بدرب الجلجلة. حيث عانى اهل بمريم الكثير من العذاب والألم، والانكسار والقلق، والرجاء والامل، من أجل ان يرتفعوا الى مصاف الانسان والانسانية ويصبح لهم طريق تؤمن التواصل مع بقية المجتمع. هذه الطريق التي لم تتحقق إلاّ بتعب وجهد، ومتابعة وإصرار وعرق جبين أبناء بمريم.
قصة الطريق تبدأ مع طريق العربات التي كان لها ولادة سعيدة لكن المولود جاء مشوّها. فكان لمسيرته قصص ومآسي، ولبلوغه رحمة وفرج.
لكي نعرف القصة جيدا وكما حصلت بالفعل سوف ارويها كما جاءت تماما على لسان كبيرنا وجليلنا الاديب الراحل سعيد احمد أبو شاهين.
اما طريق العربات فقد حصلت في زمن الحكم العثماني، وعرفت تحت اسم طريق حمانا – بمريم، وكانت طريق للأقدام والحوافر لا غير في زمن تعتمد فيه الحياة على الزراعة وحسب.
عندما زال الحكم العثماني وحلّ محلّه الحكم الفرنسي الذي لم يكن أقلّ ظلما وتعسفا من سلفه العثماني ولو انه اكثر حضارة مادية. ولأن الناس على دين حكامهم، تفتحت عيون الناس على تحسين أسباب المعيشة وتسهيل سبل الحياة وصاروا يبدلون الطنابر وعربات الخيل بالشاحنات والسيارات لنقل البضائع والركاب. وباتت القرى والبلدات التي تمرّ بها طرق معبّدة للطنابر لا تحتاج لكي تتحول الى الحضارة الجديدة إلاّ تبديل وسيلة النقل وتقتني بدل الطنبر سيارة وينتهي الامر.
أمّا القرى مثل بمريم التي ليس فيها طرق معبّدة كان عليها ان تشق طريقا وتربطها بأقرب طريق معّبدة اليها. وبالنسبة لبمريم فإن طريق حمانا التي تمر بمحاذاة دير الراعي الصالح هي الأقرب اليها، لكن المستعمر في ذلك الوقت لم يكن بصدد بذل الأموال لشق الطرق التي تخدم أبناء الوطن، بل كان كل همه جمع الأموال من المستعمرات لتغطية تكاليف الحروب ورواتب الجنود. لهذا كان على اهل بمريم الاعتماد على زنودهم ومعاولهم. وهذا لن يتحقق الاّ اذا ملأت الإرادة النفوس وغمرت النخوة الرؤوس، وهذا من شيم أبناء بمريم.
لكي تنفذ هذه الطريق كان لا بدّ من مرورها في أملاك بعض من اهالي حمانا الذين لم يبخلوا على بمريم ابدا، بل كانوا من الكرماء الافاضل، وبهذا لم يبق امام أبناء بمريم إلاّ ان يتنادوا ويصعدوا بمعاولهم ومهداتهم ورفوشهم ويبدأوا شقّ البطريق. حيث لم يكن يوجد في ذلك الوقت جرّافات لتقوم بذلك. ولا زلت اذكر كيف كان ابي يأخذني معه وانا بعمر العشر سنوات تقريبا لكي ادور بإبريق الماء على العاملين الذين تحرّكهم العزيمة وإرادة الخير وحب العمران. (الكلام للأديب الراحل سعيد احمد أبو شاهين).
بقيت النخوة في الرؤوس والطيبة في النفوس على اشدّها الى ان وصلت الطريق الى رأس القرية وبعدها اصبحت الأرض غالية على قلوب أصحابها كما ان النفوس قد ضعفت والسبب الاختلاف في النسيج الاجتماعي المحلي.
بعد ان زال عهد الاستعمار الفرنسي واستقل لبنان قام ابناء الاحياء الغربية من بمريم يطالبون الدولة بإكمال الطريق وايصالها الى الأحياء الغربية، لكن الدولة لم تتجاوب معهم، بل قدّمت المال فقط لإكمال الطريق حتى الكنيسة.
ظلت الاحياء الغربية وسكانها يعانون من الإهمال والحرمان مدة طويلة من الزمن حتى اصبحوا متأكدين ان هذا الاهمال وعدم المبالاة مقصودا، خصوصا وان مشكلتهم طالت ومعاناتهم تضاعفت لأنهم كانوا اذا مرض احدهم يضطرون الى حمله على سلّم ليوصلوه الى قرب الكنيسة حيث تصل السيارة، ومن هناك يقلّونه الى الطبيب. اكثر ما كان يؤلمهم نظرات الشفقة وكلمات المواساة التي كانوا يسمعونها وهم في طريقهم نحو الكنيسة. وكان المريض إضافة الى مرضه يشعر بالإحراج والحياء مما يضيق عليه النفس.
هذه المعاناة وهذه الإهانة بحق الانسان والإنسانية جعلت أبناء الاحياء الغربية في بمريم لا يفوّتون فرصة من اجل الحصول على الطريق. ومن اهم الفرص التي كانت متوفّرة امامهم هي الانتخابات النيابية، وعندما جاء موعد الانتخابات النيابية وكان المرشحان عن مقعد الطائفة الدرزية في دائرة بعبدا التي هي دائرتنا الانتخابية "الرجل الثري " السيد نجيب بك والمحامي القدير الأستاذ بهيج". ولأننا كنا نظن بأن المحامي بهيج هو الأقدر والأكفأ فقد قررنا ان نعطيه اصواتنا مقابل وعد منه بمساعدتنا على اكمال الطريق.
وفي يوم الانتخاب تجمع أبناء بمريم في بيت المختار ليصعدوا جمهورا واحدا الى حمانا حيث كان حينها مركز قلم الاقتراع. وفيما نحن ننتظر ان يكتمل العدد جاء موفدا من المرشح نجيب بك يدعى أبو سليم وطلب مقابلة المختار منفردا، وبعد ان تبادلا الحديث غادر أبو سليم ودخل المختار بوجه بشوش بين الجمهور، فشعرت حينها بشيء من عدم الراحة وسألني المختار ما بك قد تغيّر وجهك قلت : لست انا من تغيّر بل ما اخشاه ان تكون انت الذي تغيّر فأجابني: سأخبرك بالتفصيل ما حدث ولماذا قررت ان ننقسم فريقين ، قسم يعطي نجيب بك وقسم يعطي المحامي بهيج ومن ينجح منهما نقول له لقد انتخبناك وعليك مساعدتنا، عندها اجبته : ما يبنى على الخطأ لا ينتج عنه الاّ الخطأ وليس هذا ما اتفقنا عليه مع المحامي بهيج وبعد جدال بيننا اعطينا اصواتنا جميعا للمحامي بهيج ولم اقبل ان اتعلم فذلكة التلاعب في الانتخابات النيابية.
نجح المحامي بهيج في الانتخابات. ورغم قدرته الكبيرة في المحاماة والدفاع عن حقوق الناس لم يعط ابناء بمريم حقهم ولم يساعدهم في اكمال الطريق رغم وفاءهم لوعدهم وعدم الغدر به. وهكذا انتظروا الى موعد الانتخابات الجديدة لعلّ الحظ يبتسم لهم مع نائب جديد.
مرّت السنوات الأربع، وها هي الانتخابات النيابية الجديدة ولا بدّ لأبناء بمريم من اتخاذ موقف جديد وتحديد النائب الذي يستطيع مساعدتهم في موضوع الطريق، وكان الأستاذ خليل نائبا عريقا في المجلس النيابي، ولكن في موضوع الطريق هو غير فاعل ولا ينتظر منه اهل بمريم المساعدة لأنه كان من الحريصين جدا على اتباع نهج الدولة في ذلك الوقت. ولأن أبناء بمريم ينتظرون ولو بصيص من نور الفرج فقد قرروا ان ينتخبوا السيد إيليا اذا وعدهم بإكمال الطريق وهومن المهاجرين اللبنانيين الأثرياء الذي ترشح مقابل الأستاذ خليل.
بعد ان قام السيد إيليا بزيارة انتخابية الى بمريم، عرض عليه أبناؤها طلبهم فاسمعهم الكلام المعسول واطيب الوعود واقسم يمينا معظما ووضع يده على شواربه، والمؤسف انه حليق الذقن والشوارب وهذا ما اقلقني رغم تفاؤل أبناء القرية وفرحهم بهذا الوعد.
نجح السيد إيليا وفرح اهل بمريم وصاروا يتبادلون التهاني بانتظار اكمال الطريق. مرّت الأيام ثم الأسابيع وبعدها الشهور والطريق على حالها، عندها قرر وفد من بمريم مراجعة السيد إيليا. نزلنا الى بيروت وقصدناه في بنك سعادته، استقبلنا في غرفة الانتظار ولفرط كرمه طلب لنا القهوة، ولشدة تواضعه وحبّه لرعيته جلس معنا، وبكل ادب واحترام سألناه عن موضوع الطريق. ولكي يظهر لنا اهتمامه وتجاوبه معنا اخذ علبة السجائر من جيبه وكان فيها سيجارتين وكتب عليها " طريق بمريم شقّها وتعبيدها" ثم أعاد العلبة الى جيبه. للمرة الثانية فرح وفد بمريم وصاروا يتبادلون التهاني لكني قلت لهم: لن يطول حمله لهذا الوعد وما ان يدخن السيجارتين سيرمي العلبة ومعها الوعد. وانتظر أبناء البلدة بلهفة تنفيذ الوعد، لكن وكما يقول المثل:" عالوعد يا كمون." فالسيد إيليا دخن السيجارتين ورمى العلبة في سلّة المهملات ومعها طريق بمريم.
طبعا قصة الطريق هذه هي قصة أليمة وتشخيص لداء خبيث يفتك بنفوس المجتمع، لكن يجب ان نوضّح الداء ونعرفه معرفة صحيحة حتى يسهل علينا معرفة الدواء الشافي.
وكما يقول المثل: أطهر الناس أعراقاً أحسنهم أخلاقاً.
بعد ان أيقن أبناء بمريم ان الطريق لا يمكن ان تأتي عن طريق النواب قرروا بان يعتمدوا على انفسهم ويشقوا طريقهم بأيديهم حتى تصل الى كلّ بيت من بيوتهم، وذلك عبر النخوة والعمل والتبرّع بما يستطيعون من المال والوقت، مع تعديل باتجاه الطريق الذي سيكون هذه المرة من جهة بلدة الخريبة المجاورة، لان مرورها من وسط القرية يبدو مستحيلاً.
بعد التشاور والتساؤل فيما بيننا عمن يمكن ان يتجاوب معنا ومن سيرفض من مالكي الأرض في الخريبة وجدنا ان الامر ميسّر وقد تمكنّا من معرفة ذلك لان اهل القرى يعرفون بعضهم بعضا جيدا ويعرفون دخيلة نفوسهم. وهذا ما حصل فعلا عندما طرحنا الفكرة على أبناء الخريبة الذين ابدوا تجاوبا وحماسا مشهودا. واستنادا على هذا التجاوب المميز بدأنا العمل لفتح الطريق بعد ان جمعنا بعض المال وكلّفنا مهندسا من آل ورد بالتخطيط لها، واستأجرنا جرافة وبدأنا العمل وعندما وصلنا الى ارض للشيخ حسين وهو شيخ زمني لكنه فقير الحال وهو يعيش وعياله من عمل يده وجهده وكده، وكان بعد ان يعود من عمله بالأجرة اليومية، يذهب عند غياب الشمس الى هذه الأرض التي نحن فيها وهي كناية عن جلين لا يملك غيرهما من حطام هذه الدنيا فينقبهما ويزرعهما ليستعين بانتاجهما على تربية اطفاله وتوفير بعض الخضار والفاكهة لهم.
اوقفنا العمل نتشاور فيما بيننا، هل يجوز ان نأخذ هذه الأرض في الطريق والرجل لا يملك غيرها وهو صار في مرحلة من العجز والتعب الجسدي، لذا قررنا ان نسأله عن ذلك فأجاب: اهلا وسهلا بكم وبالطريق ثم حمل المنجل وسار امامنا وقطع أشجار الفاكهة بنفسه.
سارت الطريق واخذت جلّي الشيخ حسين وبعد ان قطعت مسافة وصلت الى جلين للسيد أبو عارف امين وهو رجل فقير منطوي على نفسه لا يتعاطى بالشأن العام وكل همه في هذه الدنيا تحصيل لقمة عيشه وعيش عياله ، وكلّ ما كان يملكه حمارا يحمّله الحطب ويذهب ليبيعه يوميا في بحمدون وحتى يزيد دخله صار يذهب في اليوم مرتين الى بحمدون الامر الذي انهكه لذا اشترى حمارا ثانيا ليوفر على نفسه المشقة، وبعد طول وقت استطاع ان يوفّر خمسمائة ليرة ويشتري بها جلّين من الأرض ليزرعها ببعض لبقول واشجار الفاكهة وللصدفة الطريق ستمرّ بهذين الجلّين ما العمل؟ بالتأكيد يجب على اهل بمريم ان يسألوه رأيه فقالوا له: بالحقيقة نحن في حيرة من أمرنا، والجرّافة قاربت ان تصل الى هذين الجلين ونحن غير قادرين ان نعوّض عليك بالمال فما قولك؟
يا لها من لحظة لا تنسى وقف أبو عارف امين وقفة الرجل الحازم قائلاً: ومن قال لكم انني اطلب تعويضا عن ذلك. خذوهما. بارك الله لكم بهما.
امّا من عزّت الأرض عليه هو الشيخ الذي لا ولد ولا تلد له في هذه الدنيا فاحتج وغضب وحاول ان يمنع مرور الطريق في ارضه لذا اطلق الناس على ذلك الكوع القاسي الذي الزمهم الشيخ بتضييقه حتى لا يأخذوا من أرضه اسم " كوع الشيخ" وتابعت الطريق سيرها حتى بيوت القرية. وكما يقول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وبالنسبة لما تمخّضت عنه ولادة هذه الطريق من ألم ومآسي، ومن مكرمات وفضائل، خطر ببالي ما يقول المعرّي:
صاح خفّف الوطئ ما اظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد
وسرّ إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالا على رفاة العباد
ولأنني اعلم ان هذه الطريق وإن لم تقم على رفاة العباد، فإنها قامت على حساب قرش الارملة والعجوز، وعلى حساب لقمة عيش الفقير المعوز. كما قامت على حساب هدر بعض من كرامة النفوس واحتمالها شيئا من الضيم في سبيل المصلحة العامة وفتح هذه الطريق.
امّا كبيرنا الجليل الذي يروي لي قصة الطريق فقد قال لي: انني أقرأ على صفحة وجهك كلمات تنم عن حزن واسى، وانا لا اريد لنفسي ان أكون غرابا لا يحوم إلا على الجثث، ولا يتكلّم إلاّ بالنعيق، بل ما أريده هو ان أكون نحلة لا تعيش إلاّ على رحيق الازهار العطرة، ولا تتنشق إلاّ أريجها كي تحوّل ذاك الرحيق وذاك الاريج العطر الى شهد عسل مصفّى، ولهذا سأذكر لك وجها من الوجوه التي ساهمت في شق الطريق وأنه لوجه مشرق.
صحيح باننا قاسينا المرارة والالم والخيبة والإحباط لإيصال الطريق الى قريتنا لكن ذلك كان الجزء الأسود من المشروع بينما الفرح ونشوة النجاح وعزّ النخوة والبهجة بالخلق الكريم، غمرت جميع القلوب الطيبة طيلة نصف شهر بين البدء بفتح الطريق من الخريبة حتى اخر يوم وصلنا به بين بيوت بمريم. الجرافة كانت تعمل من الفجر الى المغرب ورجال القرية يعملون بمعاولهم ورفوشهم الى جانبها بنشاط واندفاع. اما النسا والصبايا وكأنهن في عرس من اعراس الحياة يعددن الولائم والشراب اللذيذ ويقدمنه في هذا العرس السعيد وكانت الفرحة الكبرى في اليوم الأخير بعدما أصبحت الطريق داخل القرية وبين كل احيائها فانطلقت زغاريد النسوة وارتفع حداء الرجال وعقد الصبية والصبايا حلقات الدبكة والكل في هذه الساعة ذاق طعم انتصار الحياة على ظلم من هم في موقع المسؤولية. كيف لا والحياة للأقوياء في نفوسهم وليست ابدا للضعفاء.
بعد ان وصلت الطريق وأصبحت السيارات تأتي وتدور في احيائنا عشناها اشهرا في غبطة وفرح وكدنا ان ننسى كلّ ما قاسيناه من مرارة وألم حتى جاء فصل الشتاء وأصبحت السيارات غير قادرة على السير في هذا الطريق الترابي خصوصا عند هطول الامطار حيث تصبح الطريق موحلة.
وهكذا عدنا من جديد نعيش سيرتنا الأولى وحسرتنا القديمة، وعدنا نشعر اننا في منفى ولا سبيل لنا للتواصل مع محيطنا الا بتعبيد الطريق وتزفيتها، وهذا ما يحتاج الى إمكانيات مادية وهو الامر الذي نقاسيه، وهو الذي اجبرنا ان نعود من جديد الى النواب علّهم على الأقل إيصال صوتنا ومعاناتنا الى الدولة.
ومن جديد عدنا نراجع نوابنا. كثرٌ وعدونا بالخير لكن كأنه لا ذاكرة لهم ليتذكروا ما وعدوا به او انهم يحاولون التذاكي برمي الوعود الكاذبة عملا بالقول: عالوعد يا كمون.
ولهذا قررنا هذه المرة بان لا نعطي اصواتنا الا لمن يزفت لنا الطريق وكلفنا لجنة من ثلاثة اشخاص تستقبل حضرات المرشحين وتطلعهم على موقفنا. ويوم الانتخاب جميع أبناء القرية يتقيدون بقرار اللجنة وينتخبون من يؤمل منه تزفيت الطريق.
جاء موعد الانتخابات ووفود المرشحين بدأت تزاحم بعضها بعضا. ولمّا كان نظامنا عشائريا من قمة رأسه حتى اخمص قدميه، وليس نظاما وطنيا ليبني دولة ويعمّر وطنا، بل ليكرّس زعامات ومشيخات ونواطير.
ولمّا كان نظامنا كذلك كان علينا ان نتقيّد به ولا نخرج عليه، بمعنى اننا لا نستطيع التقدّم بمطالبنا من دولتنا الكريمة إلاّ عبر مرشّحي مذهبنا وكان ابرزهم عن دائرتنا الانتخابية السيد نجيب والأستاذ بشير.
وبعد ان زارنا وفد الأستاذ بشير الانتخابي وقاسى الامرين حتى وصل مشيا على الاقدام من الكنيسة الى الاحياء الغربية وبعد ان صارحناه بقرارنا قال: كل الحق لكم بان تتصرفوا بما يخدم مصلحتكم. وغادرنا دون وعود.
ثم جاء وفد السيد نجيب أيضا مع المعاناة نفسها. بعد ان عرضنا عليه مطلبنا وهو تزفيت الطريق مقابل إعطاء اصواتنا للسيد نجيب غادر الوفد على أساس مراجعة السيد نجيب بذلك. لم يمض يومين حتى جاء من قبل السيد نجيب السيد اديب ومعه مبلغ من المال مما اثار غضب أبناء بمريم رافضين المال لان طلبهم هو تزفيت الطريق وهذه الخدمة تقدمها الدولة للنواب من اجل تعزيز مكانتهم في مناطقهم الانتخابية وليست عطية او حسنة من النائب.
علم المقدم توفيق الذي كان يدعم ترشيح السيد نجيب بالخبر فتدخل وسيطا ورافق وفد من بمريم في زيارة للسيد نجيب كان قد رتب لها من قبل. خلال الزيارة وبعد ان عرض الوفد مطلبه تناول السيد نجيب ورق وقلم وسأل وفد بمريم كم عدد الناخبين في قريتكم وبعد الحصول على الجواب حاول ان يقوم بعملية ضرب عدد الناخبين بمبلغ محدد عن الشخص الواحد فما كان من الوفد إلاّ ان وقف غاضبا وطلب الاستئذان بالخروج بعد ان افهم السيد نجيب بأنه لا يبيع اصواته.
مرة ثانية تدخل المقدم توفيق ووصل الى تسوية بين الوفد والسيد نجيب على ان يزفت قسم من الطريق المحاذي للبيوت.
وكعادتهم كان أبناء بمريم أوفياء في وعدهم وانتخبوا السيد نجيب الذي نجح في هذه الانتخابات، ففرحوا له وانتظروا وفائه بوعده. لكن لقد نسي السيد نجيب ما وعد به كما انه كان يرفض او لنقل كان يتهرب من مقابلة أبناء بمريم ومراجعتهم له. وفي عام 1963 أصبح لبمريم بلدية ورئيسها كان السيد ميخائيل ونائب الرئيس السيد سعيد ولكن البلدية حديثة ولا ميزانية لها لهذا فهي غير قادرة على فعل أي شيء بالنسبة للطريق ، لكن لحسن الحظ ان السيد ميخائيل كان على علاقة صداقة مع وكيل السيد نجيب ويدعى فريد فطلب منه السيد سعيد مرافقته لمقابلة الوكيل فريد وبعد ان اخبروه قصتهم وانهم في نية التشهير بالسيد نجيب اتصل الوكيل بالسيد نجيب قائلا: في زيارتي شباب من بمريم وقضيّتهم انت اعلم بها وهي تزفيت الطريق الذي وعدت به قبل الانتخابات وهم يهددون بالتشهير بك فاقبل نصيحتي ونفذ وعدك لهم.
فأجابه: قل لهم ليتدبروا امرهم ويأتوا بالزفت من عند بشارة جلخ بمبلغ ثلاثة الاف وخمسمائة ليرة وانا اسدد الثمن.
فأجابه السيد سعيد: طبعا ما تقدم به سعادة النائب اقل بكثير مما وعد به، ويجب ان يعلم اننا لا نستجديه ولا نتسوّل منه. وهنا قاطعه السيد ميخائيل قائلا لو ان البلدية قادرة ما كنا ذكّرناه بوعده، ولكن حتى القسم الذي سيزفته قد يحتاج الى مبلغ الف او الفي ليرة إضافي.
أجابه الوكيل فريد: لكم ما اردتم وان لم يدفع موكلي المبلغ كله انا سأتدبر الامر.
وهنا تقدمت البلدية من وزارة الاشغال العامة بطلب محدلة واشترت البحص والدبش من موازنتها تم جاءت بالزفت من السيد بشارة جلخ على نفقة النائب نجيب وبهمة رجال بمريم تمّ تزفيت الطريق بين البيوت، وعمت الفرحة في كل بيت.
تعبيرا عن شكرهم أقام أبناء بمريم احتفالا تكريميا للسيد نجيب ودعوا اليه المقدم توفيق لان سعيه كان مشكورا، كما دعي الوكيل فريد لاندفاعه وتفهمه لأوجاع أبناء بمريم، وايضا رئيس بلدية بمريم السيد ميخائيل لاهتمامه ومساعدته. ونصب أهالي بمريم قوسا من اغصان البلح في اول طريق الزفت وزينوه بالورد والرياحين واقفلوا المرور منه بشريط ابيض واوقفوا طفلين الى جانبي القوس، طفلة حمل سلّة من الورد (وهي انا)، وطفل يحمل سلّة فيها مقص ملفوف بمنديل ابيض (وهو هاشم علي كريم أبو شاهين)
اما النسوة فقد حضّرن مأدة شهية من الطعام وضعت في دار الشيخ جميل احمد أبو شاهين.
وصل السيد نجيب ومعه وفد من المرافقين وكان الجمع بانتظاره فبدأ التصفيق والحداء ثمّ تقدّم نحو القوس فأعطته الطفلة باقة الورد وقالت له:
يا مفضل على طول الدرب اعمالك وافي كافي
اقبل مني باقة ورد عنوان الحب الصافي
صفق الجميع ثم قدم الطفل الاخر المقص وقصّ السيد نجيب الشريط لينتقل الجميع لتناول الطعام وسط الفرح العارم.
وفي السنة اللاحقة أكملت البلدية باقي الطريق الذي يأتي من ناحية الخريبة كما أكملت الطريق الذي يمر في وسط القرية من ناحية الكنيسة واصبح لبمريم عوض الطريق اثنين دون ان تحمل جميل نوابها الاكارم.
لكن ما يجب التشديد عليه هو أهمية البلدية كسلطة محلية في تطوير المدن والقرى وتنفيذ المخططات الضرورية لها. لذا يجب إعطاء الانتخابات البلدية أهمية خاصة ووعي في الاختيار لأعضائها حتى يتم اختيار الناس المناسبين للمكان والمسؤولية الملقاة على كاهلهم. وان نتعلّم من أخطاء الانتخابات النيابية ونعمل على حسن الأداء وحرية الرأي في الانتخابات البلدية.