سلسلة تاريخ المعلم الشهيد كمال بك جنبلاط   - الجزء الثامن والأخير - كمال جنبلاط وماذا قيل في استشهاده

 الشيخ المؤرخ مكرم المصري - 16 - 3 -2022 

جريمة القرن العشرين و16 أذار الأسود.

 لم يعجب هذا التحرك بطبيعة الحال أعداء المعلم الشهيد والذي اعتبره بمثابة "التحدي الوقح" لسلطتهم ونفوذهم على لبنان والعالم العربي، فقرروا التخلص منه، بالمقابل لم يحترز كمال جنبلاط ولم يتخذ أية تدابير أمنية خلال تنقلاته، وفي 16 آذار 1977 كان متوجهاً الى بيروت، وعند مروره في بلدة بعقلين كانت تقف سياره "بونتياك" سوداء في بلدة بعقلين، وعند مرور سيارة المعلم تبعتها تلك السيارة الى بلدة دير دوريت، وفي وسط الطريق وعلى بعد أمتار قليلة جداً من حاجز للجيش السوري، إعترضته السيارة وترجل منها رجلان وأطلقا النار عليه فأرده شهيداً مع مرافقية حافظ الغضيني و فوزي شديد. وأول ردة فعل فورية وعفوية كانت خروج العديد من الدروز يريدون الثأر لإستشهاد زعيمهم، فقاموا بقتل 200 من الطائفة المسيحية من أبناء بلدة ديردوريت التي كان مسيحي تلك المنطقة من أتباع جنبلاط، ولكن الخبر الذي وصل الى الدروز بأن قاتلي المعلم خبأوهم وهربوهم الى بيروت وهم من  أبناء تلك البلدة .

 قام أيضاً دروز الشوف بعمليات إنتقامية في بلدات مختلفة من الشوف " مزرعة الشوف و الباروك" ولكن موقف وليد جنبلاط أجبرهم على التوقف، وأخبرهم أن عدوهم ليس مسيحي الشوف بل أعداء الخارج. قضت عملية اغتيال جنبلاط على أي أمل بإمكانية التغير وحولت الصراع في لبنان الى صراع طائفي ميليشياوي. 

ابرز ما قيل عن استشهاد كمال جنبلاط.

 أ – الرئيس كميل شمعون . لقد كان إنساناً كبيراً، نشأ في عائلة لعبت دوراً هاماً في السياسة  اللبنانية مدة طويلة. وكان شخصية بارزة على الساحة اللبنانية السياسية، إذ أنه كان قائداً ومؤسساً للحزب التقدمي الإشتراكي اللبناني، الحزب الذي يسمى بحزب كمال جنبلاط، ومصرعه الذي جاء نتيجة الإغتيال السياسي تأسف له كل اللبنانين بغض النظر عن الأصل أو المعتقد أو الإنتماء السياسي. كما أن كمال جنبلاط شخصية سياسية بارزة لأنه كان مخلصاً في حبه للبنان. 

ب – الرئيس عبدالله يافي دخل معترك السياسة صغيراً وانتهى كبيراً وكان من نعم الرجل. عشت وإياه أياماً وشهوراً في البرلمان، كنا أحياناً نتفق وأحياناً أخرى نختلف في الرأي. وكان شخصاً متصلباً شديداً في مواقفه. وعندما يكون على خطأ يعرف خطأه ويعتذر بعدها والإعتذار عند السياسي كالسيف القاطع. ولكنه كان واثقاً من نفسه، ومن قدراته على تحليل الأمور. فالإعتراف بالخطأ فضيلة . أعتبره من ألمع السياسيين اللبنانين في المجلس النيابي. شخصية فذة وله في كل موضوع رأي وذلك سببه مطالعاته الواسعة الأفق. هذه المطالعات كانت تساعده على المشاركة العميقة في جميع المواضيع. كنا أصدقاء رغم اختلاف آرائنا السياسية أحياناً يوم كنت رئيساً للحكومة تعاونت معه في إحدى الحكومات التي رأستها وكان يومها وزيراً للداخلية. ملأ المركز بشخصيته الفذة وعلمه الواسع . رجل مميز بميزات لا يتميز بها إلا النوابغ. كان موسوعة في كل شيء، في اللغات، في المسائل الدينية والتربوية والوطنية، وسواها. كان عربياً حتى آخر نقطة من دمه. فلقد استشهد دفاعاً عن عروبة لبنان والضية الفلسطينية. وأذكر ذات مرة عندما كنت رئيساً للحكومة وكانت المظاهرات تعمّ البلاد من أجل استرجاع فلسطين وكان كمال جنبلاط على رأس المسيرة إلى البرلمان، وعند وصولهم قلت لهم " الشيء الذي تريدون منه قراطاً أريد منه أربعة وعشرين ". وأنا معكم والحكومة أيضاً وفلسطين حرة عربية . عرفته منفتحاً على العلم والمعرفة من كثرة أسفاره الى الهند، ومن كثرة مطالعته وكتاباته. وعرفته أيضاً منزوياً كالناسك يميل إلى الوحدة، منطوٍ على نفسه . وكلمة كمال في محلها. كمال في الأخلاق، كمال في العلم، كمال في السياسة، ولكننا خسرناه وخسره العالم العربي والوطني برمّته. إنساناً فذّاً قل نظيره. 

ج – الرئيس رشيد كرامي . أقدار الرجال، صفحات تقرأ فتظهر ما عندهم من سموّ وأريحية ومواقف تخدم مصلحة الوطن، وتتجاوب مع أماني المواطنين. فهم في رحلة حياتهم عنوان لجهاد ونضال وطموحات من يمثلون، وفي مماتهم شهادة حق على ما قاموا به وما قدموه في سبيل ما يؤمنون به ويعتبرونه مبدأ وعقيدة يحيون من أجلها ويموتون في سبيلها. من هؤلاء كان كمال جنبلاط الذي أعطى حياته لقومه واستشهد في سبيل من آمن به، فكان كبير كبيراً في الحالتين. لقد عرفته طيلة ثلاثين سنة، فكان نعم الرفيق والصديق، إذ عرفت فيه نبل الأخلاق وحلو الشمائل فكان بذلك قريباً في قلوب محبيه وحائزاً على ثقتهم ومحبتهم، ولقد تميز بفكره وعلمه وأدبه، وتشهد على ذلك مؤلفاته العديدة التي يصح معها أن يكون فيلسوفاً وثائراً في الوقت نفسه. لقد كان مدرسة، وأكرم بها من مدرسة. ندعو الله أن يكافأه عن كونه بقدر ما أعطى و أن يجعله في جنة النعيم.

 هـ –الرئيس رشيد الصلح سنتان كاملتان مرّتا على غياب كمال جنبلاط عن الحياة السياسية في لبنان، أكددت للوطنيين في لبنان مجدداً كم كان وجوده بينهم عظيماً، وكم كان غيابه مأساة وفراغاً قلّ أن يملؤه سواه من الرجال في السياسة اللبنانية أو في السياسة العربية. ولا غرو كمال جنبلاط كان جزءاً من التاريخ اللبناني المعاصر بل جزءاً من التاريخ العربي المعاصر، فعاش كبيراً واستشهد ليحيا خالداً بين الناس . عرفت كمال جنبلاط اللبناني الأصيل المخاص لوطنه، والمؤمن الصريح فلم يكن يضره التصلب بالرأي أو بالإصرار في الموقف ، بل كان ينطلق واثقاً بالثقرير، فبادر إلى تنفيذ ما اقتنع به مهماكانت النتائج أو العقبات . فكانت شجاعته باتخاذ المواقف مثالاً لرجل الدولة في مواقفه، ولا يضيره في ذلك شيء كان معك أو عليك. ومن هنا كانت قيادة كمال جنلاط كلها صراعات ومعارك. وكان عمره صفحات من التاريخ اللبناني المعاصر في أحداث سفر المجريات النضال وتطوراته، فإذا تلك الصفحات من بعده تراث حقبة فيها الأحداث صور والذكريات والآراء دروس وعبر. وحسبي أن أذكر كمال جنبلاط كان شريفاً إذا صادق وشريفاً إذا خاصم. فالمراحل المتعاقبة التي جمعتنا فيا زمالة العمل الوطني قد أتاحت لنا فرص التعاون في تجارب لم تخل من رياح وخلافات، إلا أن جامعاً مشتركاً من الصالح العام ظل هو خط السير لا يعلو فوق اعتباره اعتبار. يصعب عل الكلمة مهما طالت أن تفي الرجل العظيم حقه فوجوده كان سفراً في مجريات النضال على الصعيدين السياسي في لبنان ودنيا العرب.  

 و – الرئيس سليم الحص . استشهد كمال جنبلاط وبقي اسمه رمزاً للقيادة الوطنية الرائدة وعنواناً للالتزام القومي الواعي . كان في فكره ووجدانه وممارسته تحدياً صارخاً للإنقسام الطائفي والمذهبي، فقد كان زعامته الفاعلة تخترق كل خطوط الفرز الفئوي، وهو الذي أبى أن يكون لكل شعبه، وهو الذي أبى أن يكون لمنطقة وأصر أن يكون  لكل وطنه وكان في إهتماماته وإيمانه ونضاله تجسيداً حياً لالتزام اللبناني الوطني المخلص بقضايا العرب والعروبة وفي مقدمها، لا بل جوهرها، قضية فلسطين . لم يمت كمال جنبلاط يوم استشهد، ولكنه قتل ألف مرة منذ غيابه، كان يقتل كل يوم يشهد اقتتالاً بين أبناء شعبه، وكل يوم يسجل انتهاكاً للقيم الوطنية أو المجتمعية التي كان يلتزمها، كل يوم يسدل غشاء جديداً على تطلعات الشباب الذي آمن بإمكاناته وطاقاته . إن من يطالع تطورات الموقف على ساحة المقاومة الوطنية الباسلة في جنوب لبنان والبقاع الغربي، على ساحة الانتفاضة العارمة في أرض فلسطين، يكاد يرى صورة كمال جنبلاط في كل يد تقذف حجراً وكل حنجرة تصرخ في وجه عدو غاصب، وكل قطرة دم تروي تراب لبنان وفلسطين من أبناء العروبة الميامين. كان ملء السمع والبصر في حياته وسيبقى كذلك أبداً من خلال أجال تسير عل دربه في لبنان والوطن العربي الأوسع.

 ز – الأستاذ حميد فرنجية يوم اغتيلت الشهيدة "ليندا" قلنا يومها أن الموقف الإنساني والوطني الشجاع الذي وقف كمال جنبلاط سيعطي درساً للذين أعمى الحقد بصيرتهم، وللأسف لم يكن حسن نيتنا في مكانها . وأبى الحاقدون الذين أغرقوا لبنان في بحر من الدماء إلا أن يتمادوا في غيّهم ، فامتدت يدهم الجبانة إلى الرجل الذي أعطى لبنان من حبهّه الكبيروعلمه الكثير ما لم يعطه زعيم لبلده. إن الذين لهم مصلحة في اغتيال لبنان كيثرون، فانتدت يدهم لتغتال جنبلاط هادفة  إلى اغتيال ما تبقى من الوطن الواحد الذي آمن به كمال جنبلاط واستشهد من أجله، ولكن ثقتنا الكبيرة بأن الذين كانوا أوفياء لجنبلاط في حياته سيكونون أوفياء له في مماته، وفي ترفعهم فوق الجرح على عمقه. 

المصادر

  • 1- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط ، كمال جنبلاط السياسي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الثاني، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 2- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط الإصلاحي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الثالث، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 3- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط التقدمي الإشتراكي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الرابع، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 4- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط السياسي العالمي والعربي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الخامس، بيروت، لبنان، 2006.
  • 5- كمال جنبلاط، حقيقة الثورة اللبنانية، الدار التقدمية، الطبعة الرابعة، المختارة، لبنان،1987.
  • 6- كمال جنبلاط، ثورة في عالم الإنسان، الدار التقدمية، الطبعة الثالثة، المختارة، لبنان،1987.
  • 7- كمال جنبلاط، ربع قرن من النضال، الدار التقدمية، الطبعة الثانية، المختارة، لبنان، 1987.
  • 8- كمال جنبلاط، فلسطين قضية شعب، الدار التقدمية، الطبعة الأولى، المختارة، الشوف، لبنان، 2006.
  • 9- كمال جنبلاط، إفتتاحيات مجلة الأنباء، منشورات مجلة الأنباء، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1981.
  • 10- بشارة الخوري، حقائق لبنانية، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، الجزء الثالث، الطبعة الأولى، منشورات أوراق لبنانية، انطلياس، لبنان، 1983.

 11 – أنطون سعادة، المحاضرات العشر، دار الفكر، الطبعة الثالثة، دمشق، سوريا، 1957.

 12 – وليد جنبلاط، ثوابت النضال التقدمي في لبنان، منشورات مجلة الأنباء، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1981. 

 - المراجع التلفزيونية:

 1 - العميد عصام أبو زكي، حقيقة إغتيال كمال جنبلاط، مقابلة على قناة الجزيرة الإخبارية.

 2 – وثائقي الحرب الأهلية اللبنانية، قناة الجزيرة .

 3 – حرب لبنان، قناة الجزيرة .