سلسلة تاريخ المعلم الشهيد كمال بك جنبلاط -    الجزء الثالث كمال جنبلاط والثورة الحمراء

 

الأستاذ الشيخ مكرم المصري - 24 - 2 -2022

الثورة الحمراء 1958.

 كان مقتل نسيب المتني في أيار 1958 بداية الإغتيالات السياسية لأرباب القلم في لبنان لكن اغتياله " صُنع في لبنان " مئة في المئة، على عكس الإغتيالات اللاحقة التي طاولت أعلاماً بارزين في مهنة البحث عن المتاعب.

دفع المتني دمه ثمناً لموقفه السياسي. إذ كان معارضاً لسياسات عهد الرئيس كميل شمعون. ووقف بكل ما أوتي من حبّر ضدّ التجديد لرئيس الجمهورية، معتبراً ان التمديد جريمة، معلناً معارضته للإعتداء على الدستور.

  كان نسيب المتني من أولئك العصاميين الشرفاء، وقد بدأ عاملاً في المطبعة، ولم يكن يحسب أنه سيأخذ المهنة عن أصحابها فلم يكن له نصيب من الثقافة لكن ضميره كان يقظاً. وقد باشر كتابة الأخبار ثم التعليقات بالاضطرار، وكان يهتم بإثارة قضايا الناس ويكتب همومهم بلغة بسيطة وبأسلوب مباشر فيه قدر عظيم من الجرأة. وحين آلت اليه "التلغراف" جعلها على مثاله، وهكذا فقد باتت صوت المعارضة، وبالتالي صوت العمال والفلاحين والمظلومين والذين لا صوت لهم. وفي فجر الثامن من آيار من العام الذي شهد "ثورة 1958" اغتيل المتني بخمس رصاصات، اخترقت إحداها قلبه، ليخرّ سريعاً بعدما صرخ في وجه قاتله "يا كلبياجبان" فأشعلت دماؤه شرارة الثورة ضد عهد شمعون. عمّت التظاهرات والاضرابات أرجاء البلاد.

 اندلعت في طرابلس معارك مع الجيش وقوى الأمن الداخلي، ذهب ضحيتها المئات بين قتيل وجريح، من دون أن يتزحزح شمعون عن كرسيه قيد نملة. فأكمل عهده حتى اليوم الأخير، لكنه لم يجدّد ولم يمدّد. 

 لم تكن تلك أولى معارك المتني مع رؤساء الجمهورية. فقد خاض ذلك الصحافي الجريء الذي انتخب نقيباً للمحررين عام 1947، معركة سابقة دفاعاً عن المبادئ ذاتها ضدّ عهد الرئيس بشارة الخوري الذي استقال في 18 أيلول 1952، تحت ضغط والمستجيب لدعوات المتني الى إضراب شامل عمّ لبنان ثلاثة أيام متتالية. استطاع المتني، بقربه من المواطنين الذين اعتبروه ضميرهم العام أن يصنع جريدة على نمطه هو، فأصدر صحيفة "التلغراف" اليومية عام 1945 لتصبح الجريدة الشعبية الأولى آنذاك بعدما جعلها صوت المعارضة ومنبرها الأخطر، يتناوب على الكتابة لها وفيها وعلى تزويدها بأخبار كل أقطاب ذلك الزمن من السياسين، وبينهم صائب سلام وكمال جنبلاط وحسين العويني. 

 وحتى اغتيال المتني عام 1958، كانت "التلغراف" تطلع كل صباح على اللبنانيين بمقالات نارية، بقلم رئيس تحريرها، فاضحةً تغلغل الفساد في إدارات الدولة، ومنتقدةً بقوة الاستعانة بالخارج ضد الداخل، مطالبة "سيد العهد" بالرحيل لتجنيب البلاد حرباً أهلية كانت ملامحها بدأت تلوح في الأفق.

 في 25 حزيران 1958 أعلن الرئيس شمعون أنه يتمتع بكل الصلاحيات الدستورية ليطلب عند الاقتضاء تدخلاً عسكرياً أجنبياً بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وسارت في بيروت شائعات مؤداها أن أعضاء حكومة سامي الصلح وقعوا قبل حين وثيقة تقر هذه الصلاحيات وسلموها إلى السفارة الأميركية. وأقلق تصريح كميل شمعون كمال جنبلاط الى أقصى حد، عندها قرّر الزحف باتجاه بيروت وتسديد الضربة الختامية القاضية على النظام، واختيرت هدفاً للهجوم قرية شملان في منطقة عاليه المطلة على بيروت وغير البعيدة عن المطار الدولي.


وضع خطّة العمليّة الّلواء شوكت شقير الذي عيّنه كمال جنبلاط قائداً للقوات الثورية. في 30 حزيران، زحفت فصائل غير كبيرة من كفرحيم باتجاه شملان واستولت في اليوم التالي على المرتفعات المحيطة بها، وتميز القتال في منطقة شملان بالضراوة نظراً الى أن الثوار اضطروا إلى شل مقاومة رجال الحزب القومي المدربين جيداً، ورغم استخدام الموالين المدفعية على نطاق واسع، إضافة إلى التغطية الجوية بالطائرات الحربية، فقد تمكنت قوات المقاومة الشعبية من تطويق شملان، وكانت مستعدة لاقتحامها إلّا أن الجيش تدخل في الأحداث من جديد في اللحظة الحاسمة، فاضطرت قوات المقاومة الى التراجع، واشتاط كمال جنبلاط غضباً. فسكون صائب سلام وسائر زعماء العاصمة الذين لم يهبّوا لنجدة ثوار الشوف وهم على مشارف بيروت  ولا تفصلهم عنهم عشرة كيلومترات. إنتقد كمال جنبلاط زعماء المعارضة  في بيروت لافتقارهم إلى التنظيم والانتظام على حد تعبيره، واعترف بأن السبب الأول لانسحابه هي الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات الثوار في سياق العملية.


  في 15 تموز بدأ إنزال مشاة البحرية الأميركية على شاطئ الأوزاعي الخالية من السكان وما هي إلا ساعات معدودة حتى تحولت أطراف بيروت معسكراً حربياً وتوزعت قوات الإنزال الأساسية على بساتين الزيتون حول مطار خلدة الدولي، وبدأت الطائرات تهبط واحدة تلوى الأخرى، وتلقى مشاة البحرية أمر قائد القوات الأميركية في لبنان الأميرال جيمس هولاوي بتفادي الاشتباكات مع اللبنانين وعدم اطلاق النار إلا في حال هجوم فصائل المعارضة الموالية لعبد الناصر من البسطة، أو هبوط فصائل جنبلاط من الجبال في محاولة لاقتحام العاصمة. 


في 17 تموز أوفد الرئيس أيزنهاور نائب وكيل وزارة الخارجية الأميريكية روبرت مورفي إلى لبنان وكلفه مهمة تقصي الحقائق ودرس الموقف والبحث عن أفضل حل للأزمة يرضي الولايات المتحدة، وقد تخلى الأميركيون آنذاك عن الرئيس شمعون مدركين أن الخروج من الطريق المسدود يستدعي وجود رئيس جديد للبلاد يرضي جميع أطراف النزاع. فحالما وصل مورفي الى بيروت توجه إلى حي المصيطبة الإسلامي وليس إلى رئيس الجمهورية، وبعد التحدث مع صائب سلام وعبدالله اليافي وحسين العويني اقتنع مورفي بصدقية جعل التشاور مع المعارضة حجر الزاوية في مهمته. ووجه الدبلوماسي الأميركي جهوده أيضاً في اتجاه طرابلس حيث التقى رشيد كرامي. وكان له لقاء مهم مع كمال جنبلاط في إقليم الخروب في إطار الحوار مع المعارضة. والى جانب المعارضة التقى مع البطريرك بولس المعوشي ومع هنري مرعون و ريمون اده، كذلك اجتمع مع إميل البستاني الذي كان عائداً  من القاهرة، وبالطبع مع قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب. بعد اجتماع كمال جنبلاط مع روبرت موفري وافق على ترشيح فؤاد شهاب شرط أن يسحب القوات الأميركية من بيروت وأن تسند إليه حقيبة الداخلية في الحكومة الجديدة إضافة الى حقيبة أخرى كذلك نائب رئيس مجلس الوزراء فتم الاتفاق على ذلك كما وافقت جميع قوى المعارضة على ذلك الترشيح.

 في 31 تموز عام 1958 انتخب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بأكثرية 48 صوتاً مقابل 7 أصوات أعطيت لريمون اده الذي كان يعلم أن ليس له حظوظ في الرئاسة لكنه رشح نفسه كي لا يقال إن هذا الإنتخاب قد تم في ظل الأسطول السادس على حد تعبيره. 

واجه  الرئيس فؤاد شهاب معارضة قوية من القوات المسيحية واعتبروا أن رفضه استخدام الجيش لمواجهة الثوار خيانة يتصورون أنها دفعت البلاد الى شفير الكارثة .

 الا أن تطور الأحداث سار وفق سيناريو آخر خيب آمال كمال جنبلاط ، فزعماء جبهة الاتحاد الوطني لم يصمموا على الإستفادة من الموقف، وفضلوا المساومة على الضغوط القسّرية متصورين أنها ترضي الجميع، وأسفرت تلك المساومة عن تأليف حكومة وزعت حقائبها بالتساوي بين المسيحين والمسلمين وتجسدت هذه الحكومة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب وكان هدفها تحقيق المصالحة الوطنية وتؤمن الاستقرار، ففي النصف الثاني من تشرين الأول 1958 أخذت الحياة تعود الى مجاريها وازيلت المتاريس من الشوارع وألغي منع التجول جزئياً في البداية ثم كلياً. وفي نهاية تشرين الأول غادر لبنان آخر جندي اميركي لبنان وعاد لبنانيون ليمارسوا حياتهم بكل طبيعية.

 يعتقد كمال جنبلاط أن واقع الأمر هذا لا يتجاوب مع روح العصر. ففي النصف الثاني من القرن العشرين حيث تجري في كل مكان عملية الجمع البشري وتوحيد الناس، بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية ومعتقداتهم الدينية وحتى لون بشرتهم، كان النظام الطائفي الانعزالي المتبقي في لبنان تركة عفا عليها الزمن وهي موضوعياً تعوق تطور البلاد.   

المصادر

  • 1- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط ، كمال جنبلاط السياسي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الثاني، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 2- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط الإصلاحي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الثالث، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 3- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط التقدمي الإشتراكي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الرابع، بيروت، لبنان، 2006 .
  • 4- صالح زهر الدين، مسيرة الشهيد كمال جنبلاط، كمال جنبلاط السياسي العالمي والعربي، المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، موسوعية كمال جنبلاط، الطبعة الأولى، الجزء الخامس، بيروت، لبنان، 2006.
  • 5- كمال جنبلاط، حقيقة الثورة اللبنانية، الدار التقدمية، الطبعة الرابعة، المختارة، لبنان،1987.
  • 6-كمال جنبلاط، ثورة في عالم الإنسان، الدار التقدمية، الطبعة الثالثة، المختارة، لبنان،1987.
  • 7-كمال جنبلاط، ربع قرن من النضال، الدار التقدمية، الطبعة الثانية، المختارة، لبنان، 1987.
  • 8- كمال جنبلاط، فلسطين قضية شعب، الدار التقدمية، الطبعة الأولى، المختارة، الشوف، لبنان، 2006.
  • 9- كمال جنبلاط، إفتتاحيات مجلة الأنباء، منشورات مجلة الأنباء، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1981.
  • 10- بشارة الخوري، حقائق لبنانية، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، الجزء الثالث، الطبعة الأولى، منشورات أوراق لبنانية، انطلياس، لبنان، 1983.

 11 – أنطون سعادة، المحاضرات العشر، دار الفكر، الطبعة الثالثة، دمشق، سوريا، 1957. 12 – وليد جنبلاط، ثوابت النضال التقدمي في لبنان، منشورات مجلة الأنباء، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1981.  

- المراجع التلفزيونية:

1 - العميد عصام أبو زكي، حقيقة إغتيال كمال جنبلاط، مقابلة على قناة الجزيرة الإخبارية. 2 – وثائقي الحرب الأهلية اللبنانية، قناة الجزيرة . 

3 – حرب لبنان، قناة الجزيرة .

جميع المنشورات و المقالات في الموقع تعبر عن رأي صاحبها فقط