ايمان ابو شاهين يوسف - 2- 5- 2023
طريق طويل تلفّه أشجار الصنوبر والملّول، تتخلله منحدرات ملونة بألوان الأزهار الزاهية، ومن خلفه يمتد سهل مغطّى ببساط من العشب الأخضر، وجميعها تترنح طربا على خرير مياه السواقي.
جذبتني هذه الطبيعة الخلابة، ورحت اسير ورأسي يدور من حولي محاولا ان ألتقط كل ما في هذه الطبيعة من صور جميلة، وإذ بصوت ملائكي يُرْسَلُ مع نغمات مياه السواقي يناديني: هلمّ تعال إلينا واستحمِّ بعبق السحر وشدا زهور روابينا، لتذوب فرحا وتمتزج بمادة الأرض التي منها حياتنا واليها العودة بعد أن نعيش حاضرها ونصبح من ماضيها.
خطوات ثابتة رحت أخطوها وعيناي تجولان بكل اتجاه وكأنها تحاول ألا يغيب عن نظرها أي مشهد من مشاهد الجمال أو أي حركة من نشاط هذه الطبيعة الحيّة.
عصافير تجوب الفضاء لتؤدي رقصة الشكر والفرح، فراشات ترتدي أجمل اثوابها وتسير في موكب لتزف به نور الشمس، براعم الازهار تتفتح نضرة لملاقاة نسيم الوادي، والسواقي تنشر رذاذها لتبارك خيرات الأرض، أمّا الأشجار فتمدّ اغصانها لتحتضن الجميع تحت فيء ظلالها.
فرح كبير ملأ نفسي، وانسلّ بهدوء ليسكن قلبي الذي اخذ ينبض نبضات حبّ وفرح ويرسل شعوراً صادقا بالحمد والشكر لنعم الله وعظيم آياته.
أمّا السعادة فلا تكتمل، والحياة ذاتها ثنائية التركيب (فرح وحزن، قوّة وضعف.، أخذ وعطاء) حيث قطع فرحتي واوقف سعادتي صوت بكاء ضعيف تخنقه الانفاس المتقطعة ويملأه الحزن والألم.
فجأة تغيّرت وظيفة عيناي، وانتقلت من جمع كل ما هو فاتن وبديع، إلى التفتيش وبإصرار عن مصدر البكاء.
لم أصدّق ما رأت عيناي وما سمعت اذناي، وذهلت عندما تحققت بان هذا البكاء يصدر عن زهرة النرجس، هذه المسكينة التي التصقت بوحل الأرض بعد ان داستها قدم إنسانٍ عابث بالحياة وكائنات الحياة، ثم أكمل طريقه دون أن يشعر بأي ذنب او خطيئة.
سقطت النرجسة ضحية لاعتداء لم يكن لها فيه أي ذنب أو سبب، فتألّمت كثيراً وتحطّم كبرياءها وعنفوانها وصارت تبكي وتتنهد حسرة ليس بسبب آلام جسدها الضعيف وحسب، بل بسبب انكسار عنفوانها وعزّة نفسها ايضاً، وهي التي طالما تغنّت بنفسها وتعالت على الجميع كونها زهرة نرجس. هذه الزهرة التي لا ترى بين الزهور من ينافسها جمالا ورونقا، ولم تر سوى نفسها في هذا الوجود كما ولم تحاول يوما أن تعترف بأي حسنة أو فضيلة لأحد سواها من الكائنات. وبلحظة طيش وعبث لأحد أبناء البشر النرجسيين داسها وحطّمها ولم يكلّف نفسه ان ينظر ماذا فعل.
حزِنْتُ جداً لهذا المشهد المؤلم، فجلست أرضا أحاول أن أرفع هذه الزهرة لكي أعيدها مجدداً الى شموخها وعنفوانها، وعندما وجدتني بحيرةٍ من أمري قالت: يا ابن الإنسان لا تحتار ابدأً، فكما يوجد بين أزهار الأرض النرجس والريحان، كذلك يوجد بين بني البشر الطيّب والخبيث، ولا دواء لنا نحن جميع مخلوقات هذه الأرض إلاّ بالعودة الى أحضان أمّنا الأّرض نستمدّ من حضنها الدفء وصدق المحبة، ونتغذى بصافي لبنها وعذب مياهها، كما ونتّبِعُها بكلّ خطواتها وفصولها، وقلوبنا تنبض حبّا وفرحا وايدينا تزرع خير العطاء.
كلمات مؤثّرة زرعتها هذه الزهرة الجريحة في نفسي، أشعلت في ضميري الشهامة والاندفاع فوقفت بسرعة استعيد قوتي وركضت الى مياه تلك الساقية الهادئة أغرف في راحتيَّ الماء وأعود به اسقي زهرة النرجس.
وبلهفة الأم الخائفة على طفلها رحت أتتبعها لحظة بلحظة أتفحّص اوراقها وبراعمها وأرفع جذعها بحذر عن الأرض وأربطه بجذع نبتة قوية بجانبها حتى تستطيع الوقوف. ثمّ حاولت بلطافة ان ازيل الوحول عن جسمها الضعيف بسكب المياه عليها، فنَظُفَت وانتعشت بآن واحد وبدأت تستعيد قوّتها، وترفع اجزاءها جزءاً جزءا، الى أن وقفت متكاملة متعافية.
راحت زهرة النرجس تتفحص نفسها لتتأكد من سلامتها من كل شرّ ومكروه، فوجدت نفسها بخير وعافية، كما تأكّدت من عودتها الى كامل رونقها وجمالها، عندها أحسستُ وكأن رعشة امتلكتها فاهتزت ونظرت الى الأعلى ثمّ رفعت حاجبيها، وأسدلت عينيها وحولّت رأسها باتجاه واحد دون ان أعرف لذلك تفسيرا.
حمدت الله حمدا كثيرا على سلامتها واستعادة عافيتها، وشعرت براحة نفسية كبيرة لأنني استطعت أن أنقذها وأساعدها على متابعة حياتها، وحتى أكون أكثر اطمئنانا عليها اقتربت منها اتفحصها وأتلمس جذعها وأوراقها فوجدتها قوية قادرة على الوقوف بمفردها فأزلت الرباط الذي كان يربطها بنبتة أخرى ليساعدها على الوقوف.
انتفضت النرجسة وشدّت كامل اقسامها وراحت تدور ناحية ضوء الشمس لحظة ثمّ تنظر لنفسها في نقاط الماء التي تجمعت أسفل جذعها لحظة أخرى. فجأة أخذت تتغيّر ملامحها وتختفي منها تلك البراءة التي كانت تظهرها وهي جريحة، وكأنّ شيئا قد سرى في جسدها وأعطاها هيئة مختلفة وإحساسا مختلف فيه الكثير من التعجرف والكبرياء.
وقَعْتُ في حيرة من أمري ورحت أحدث نفسي متسائلاً: ما الذي حدث لهذه الزهرة يا ترى وما هو سبب تغيّرها؟؟؟ هل هذا بسبب سقوطها وارتطامها بالأرض؟؟؟ ام أنها شربت موادا مضرة مع الماء التي جئتها به من الساقية؟؟؟ أو أن حرارة الشمس قد رفعت من حرارتها؟؟؟
رحت التمسها مرة جديدة واتنشّق من عبق أريجها الذي بدأ يفوح في المكان، فقط للتأكد من سلامتها وعدم إصابتها بمرض، فشعرت بانها تدفع بيدي وتبتعد عني.
سألتها: هل سببت لك ألماً؟
أجابتني: إنك تتسبب بتشويه جمالي والتقليل من عبقي وأريجي وهذا هو الألم الحقيقي بالنسبة لي، فلا تلمس جسدي او تشتمّ عطري بعد اليوم، ووجودك أصبح يزعجني ويكدّر عليّ حياتي وقربك مني قد يفسد الهواء عليّ ويحجب عني ضوء الشمس، فابتعد ودعني أعيش فرحتي وأتمتّع بجمالي الذي لا ينافسني به أي زهر أو ورد من أزهار وورود هذا الكون.
صُدِمْتُ بكلامها صدمة كبيرة نغّصت عليّ رحلتي وجعلتني أقفل عائدا الى المنزل محمّلاً بالألم الذي أصاب قلبي، وبالأفكار التي تتصارع في عقلي، ورحت احدّث نفسي وأقول:
هل يعقل ان تعاملني بهذه القسوة وبهذا الجحود بعد أن انقذتها من الموت المحتّم وأعدت إليها جمالها ورونقها؟ ألم تشعر بأني رويتها ماء الحياة؟ ألم تلاحظ اهتمامي ومتابعتي لها حتى استعادت عافيتها؟؟؟ هل أكون قد أخطأت بمساعدتها؟ ….
أسئلة كثيرة دارت في رأسي دون أن تلقى جواب.
استمريت في السير واستمرت الأفكار تنخر رأسي والألم يشقّ صدري، واحداث الرحلة كلّها تمر في مخيلتي وكأنّها مشاهد حيّة لفيلم سينمائي طويل.
لحظة توقف كلّ شيء لتبقى كلمات النرجسة تتردد في أذني وهي تقول: كما في الأزهار ريحان ونرجس فكذلك يوجد في بني الإنسان الطيب والخبيث.
هذه العبارة جعلتني أستيقظ من سهوتي لأجد الإجابة لكلّ أسئلتي، هذه الإجابة التي جاءت على لسان النرجسة بذاتها، التي ومنذ البداية المحت لي عن طبيعة جوهرها وكأنها تقول: إن النسغ الذي يسري في عروقي هو نسغ انانيّ خبيث فلا تتفاجأ بما سوف يصدر عني.
أخذت نفساً عميقا وقلت في ذاتي: إذاً، هذه هي النرجسية.
ثمّ اكملت السير وأنا راض عن نفسي غير نادم على مساعدتها لأني الطيّب بطبيعته…