همسة مزهر
قد يبدو جيل التسعينات السوري كموضوع مثالي لنكات السوشال ميديا والڤلوغز ..لكن ما يراه الناس كـ"مزحة" هو في الواقع كوميديا سوداء تُجسد سيرة جيلٍ كامل عاش بين عصرين: عصر الوهم بالمستقبل الزاهر، وعصر الحقيقة القاسية التي ألقت بهم في دوامة القرارات المصيرية. هذا الجيل هو أشبه بفيلم طويل مليء بالمفارقات: وُلدوا في زمن الوعود والأمان، وكبروا وسط حربٍ لم تترك لهم خيارًا سوى القتال من أجل البقاء. من حصص الرسم والموسيقى في المدارس، إلى التسلل في ساعات الليل للهروب من براثن الحرب، ومن تخطيط الحياة المهنية إلى البحث عن طوق نجاة عبر قوارب الموت. هكذا تحولت رحلة جيل التسعينات من محاولة بناء مستقبلهم، إلى محاولة الهروب منه.
هو الجيل الذي يحمل على أكتافه إرث الحروب والأزمات، بينما يُطل عليه الجيل الأصغر بنظرة غريبة، ويتساءل: لماذا هذا الجيل بالذات يبدو حائرًا ومشتتًا؟ الإجابة ببساطة تكمن في سلسلة من القرارات التي اضطر لاتخاذها وهم بالكاد بدأوا في فهم معنى الخيارات: الهجرة أم البقاء؟ الحلم أم النجاة؟ الدراسة أم التسرّب للبحث عن فرصة عمل تحت الأنقاض؟ هكذا عاش جيل التسعينات حالة من "تغريبة الحلم" التي كانت –ولسخرية القدر– تزداد تعقيدًا كلما اقتربوا من تحقيقها
ومع ذلك، وسط هذا الدمار الذي أحاط بهم، أصبح جيل التسعينات يتقن فن السخرية من نفسه، وكأن الضحك هو السلاح الأخير الذي يملكونه أمام واقع أكبر من أن يُحكى بجديّة. هنا، يأتي السؤال: هل نحن أمام جيل ضائع، أم أمام جيل يتفنن في تزيين أوجاعه بالكوميديا، في محاولة يائسة لتقبّل ما كان يجب ألا يكون؟
نحن لسنا ضائعين، نحن تائهون بشكل محترف"
التهكم هنا ليس من باب السخرية فقط، بل هو درع يحميهم من جحيم الواقع. فحين تسمع أحد أبناء التسعينات يصف نفسه بأنه "ضائع"، ستجده في الحقيقة يتحدث عن قرارات لم يكن ليختارها في أبشع الكوابيس. هل يهرب إلى أوروبا عبر قارب متهالك؟ أم يبقى ليعيش "حياة طبيعية" وسط مدينة تقصفها الطائرات؟ هل يكمل دراسته في جامعة أغلقت أبوابها بسبب الاشتباكات، أم يبحث عن عمل بأجر لا يكفيه حتى لشراء تذكرة حافلة؟
بينما كان جيل الألفينات في سوريا لا يزال يحاول فهم كيف يمكن بناء "قلعة رملية" وسط حرب، كان أبناء التسعينات يتفاوضون مع سماسرة الهجرة في تركيا، أو يحاولون إيجاد طريقة لاستكمال مشاريع التخرج رغم انقطاع الكهرباء وحظر التجوال. وبينما يتذكر الجميع "حفلات التخرج" في بقية العالم، كانت حفلة التخرج لهذا الجيل هي مجرد اكتمال لحياة مهنية كانت قد بدأت بالاصرار وتحدي القذائف والصواريخ .
عندما تكون الهجرة هي الخطوة الأولى نحو البقاء على قيد الحياة
لا يمكن أن نتحدث عن جيل التسعينات السوري دون أن نذكر "رحلة الهجرة". البعض أخذ الأمر على محمل التحدي، قائلًا لنفسه: "إن لم أستطع تحقيق النجاح هنا، سأبدأ من الصفر في بلد جديد". لكن الحقيقة المرة هي أن رحلة الهجرة لم تكن مغامرة ممتعة، بل كانت غالبًا بداية لحياة غير محسوبة، في قارب يوشك على الغرق أو على حدود تعجّ بالانتظار والبرد والمهربين.
حين وصل هؤلاء الشباب إلى أوروبا، لم يكونوا "رواد أعمال" أو "مهاجرين شرعيين". كانوا هاربين، لاجئين، يبحثون عن فرصة للبقاء على قيد الحياة. البعض منهم تحول إلى عامل نظافة بعد أن كان طالبًا في كليّة الهندسة، والآخر استبدل حلمه بتأسيس شركة بحلم أبسط: ألا يعود إلى سوريا في صندوق خشبي. وبينما يحاولون اليوم بناء مستقبل جديد، تراهم يروون قصصهم وكأنهم يحاولون أن يضحكوا على المصير الذي اختار أن يسلبهم أكثر سنوات حياتهم حيوية
خلف كل ضحكة قصة حياة تُحارب من أجل البقاء.
جيل يرفض أن يُعرَّف بالضياع، بل هو جيل من العزيمة والإبداع، يتجسَّد فيه الأمل والشجاعة في أسمى معانيها. إنهم يرسمون طريقهم الخاص، متحدين الصعوبات، ومصممين على أن كل عقبة يمكن أن تكون خطوة نحو حياة كريمة تليق بهم.