رياض حسن 2-6-2021
رحل الأمير شبلي زيد الأطرش وريث البيت الوطني الكبير بأخلاقه وبتاريخه وبرجاله مبكراً عن هذه الدنيا في وقت تتعطش القضية إلى أمثاله. فهو البطل في مواقفه وفي وطنيته وفي محبته للحرية والكرامة وفي عقلنة مشاعره وعواطفه أمام المحن، وفي سعة صدره لاحتواء القريب والبعيد. وإذا عدنا إلى المفهوم التقليدي للبطولة، والسيف رمزها، لوجدنا فقيدنا الغالي في طليعة المعركة على خطى اسلافه الابطال.
في زيارته الأخيرة إلى لبنان للمشاركة في تشييع الأمير فيصل الاطرش صهر الامير حسن الأطرش ألقى كلمة غنية بالشعور الوطني الصادق وكأنها رسالة وداع ومليئة بتعابير “هذه وصيتي” ومنها هذه المقتطفات: “جئنا من دمشق الفيحاء، من سوريا الوحدة المتكاملة، من جبل العرب صانع البطولة والمقاومة، من جبل سلطان باشا الاطرش.
وصلنا بالعقل والقلب جبل العرب بجبل لبنان، جبل الشهيد كمال جنبلاط. لنشارككم تأبين فقيدنا الراحل الأمير فيصل الأطرش الذي اختار لبنان موئلا له، قاصداً هواءه العليل، وأشجاره الراسخة، وأغصانها المرفرفة بحرية واستكانة”.
وقال: “جئنا من جبل العرب حاملين معنا أهازيج النشامة، ودموع اليتامى. جئنا بصوت ملؤه الشجن، الحامل كلمة الحق، وحقيقة تطلعاته نحو سورية واحدة موحدة، بأرضها وشعبها، بجغرافيتها وتضاريسها، ومؤسساتها لنقول كلمة حق واحدة تجمعنا عبر التاريخ. إننا قلب واحد، وموقف واحد في سبيل الكلمة والصف الواحد”.
هذه الكلمة لها وقعها الكبير لأنها تخرج من فكر وقلب رجل بهذا الحجم ومن هذا البيت الذي إعتاد على التحرير والوحدة وبث روح التعايش وبناء الأوطان. وهو جواب دامغ على هذه الطروحات التي يتداولها البعض على شبكات التواصل الاجتماعي كل على هواه دون التفحّص بالعواقب. فالبيئة التي ينتمي اليها الأمير الكبير والمتواجدة في الجبلين هم دعاة وحدة وانتماء وهوية عربية. نحن موحدون، نعم، وهويتنا الروحية هي المعتقد التوحيدي ولكن هويتنا السياسية أو القومية هي العروبة ولا يمكننا أن نخلط بين الإنتماء السياسي والانتماء الروحي. الأمير الراحل كان يعلم أننا نعيش في بيئة متعددة الهويات الروحية ولكن موحدة الهوية السياسية، فواجبنا الأول وهذا ما فعله الأمير هو مد الجسور مع الجيران وتعزيز علاقات حسن الجوار مع كل مكونات الوطن الذي تجمعنا بهم رفقة نضال طويل ضد المستعمرين وتوحدنا بهم هوية الوحدة العربية التي ستبقى، بالرغم من كل العقبات. الأمل الوحيد لعزتنا وكرامتنا كعرب.
وكلمة الأمير الراحل لها أصداءها أيضاً في مجالات أبعد وأعمق مما نلاحظ عندما يتكلم عن “سورية واحدة موحدة، بأرضها وشعبها، بجغرافيتها وتضاريسها، ومؤسساتها” فهو يحذّر من التقوقع، والتقوقع هو من خصوصية العقول التي يستولي عليها شعور الأقلية أو عقدة الأقليات. وهناك أقليات تخاف على واقعها لأنها لا تنشد الانصهار في النسيج الوطني فتطلب الحماية من الخارج أو تتحالف مع أقليات أخرى لإنتاج حكم في وجه الأكثرية.
وهذه العقدة ليست عقدة بنو معروف لأنهم لم يطلبوا في تاريخهم الحماية من أحد بل كانوا القادة الذين يدافعون عن كرامتهم وعاداتهم وتقاليدهم بأنفسهم حتى كانوا يدافعون عن القضايا الوطنية والقومية الكبرى كما فعل سلطان ضد الفرنسيين في دفاعه عن سوريا الموحدة، وما فعله كمال جنبلاط في احتضانه للثورة الفلسطينية، وفي التاريخ شهود كثيرة سنأتي لاحقا على الاحاطة ببعضها.
هذه الحالة هي غير طبيعية في الدرجة الأولى لأن الأكثرية لن تقف مكتوفة الأيدي إلى الأبد ويوما ما ستنتفض لاستعادة حقوقها. وهذه الأقليات عندما لا تشكل أكثرية في مجموعها لا يمكنها أن تصل إلى السلطة بالطرق الديمقراطية بل بالقوة أو بحماية أجنبية.
ولا يمكن للأمور أن تصل إلى هذا الحد إلا بعد أن تكون لهذه الأقليات أو بعضها مشروع سياسي خاص بها. وبنو معروف لم يكن لهم يوما من الأيام مشروع إقامة دولة درزية بل مشروعهم السياسي كان دائما العروبة والوحدة العربية. والاقلية الحاكمة التي تغتصب السلطة كما هو الحال في سوريا الشقيقة لا تفعل ذلك دفاعا عن الأقليات الأخرى بل كي تستقوي وتحتمي بهم وتستعملهم كأكياس رمل تتمترس وراءهم للدفاع عن مصالحها الخاصة ومصالح حكامها وحاشيتهم وتحارب بهم الأكثرية وتحوّل الأقليات الأخرى في آخر المطاف إلى ورقة تفاوض لا غير في يد هذه الاقلّية الحاكمة.
في هذا السياق، نعود إلى التاريخ ليس لجدولة الأحداث بل للتذكير والتوجيه وأخذ العبر والتركيز على ما كان يقصد به الأمير شبلي الأطرش. ففي العام 1110م حصل أول إصطدام عسكري في بيروت بين الجيوش الصليبية والدروز بقيادة الأمراء التنوخيين الذين خسروا في القتال أكثر من عشرين من أمرائهم وأكثر من ألف مدني ومقاتل ولم يتقدم أحد لمساعدتهم رغم أنهم كانوا يقاتلون دفاعا عن العروبة والإسلام وليس عن وجودهم.
وفي عام 1187م، وإلتزاماً منهم بالقضايا القومية العظمى كان لهم دور قيادي بجانب صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الشهيرة التي هزم فيها الصليبيين. والتاريخ يذكر الأمير فخر الدين المعني الكبير الذي بنى إمارة إمتدت من حلب في الشمال حتى حدود مصر في الجنوب متحدياً الإمبراطورية العثمانية في أوج مجدها.
وفي سنة 1837م، إنتزع جيش إبراهيم باشا معظم الشرق العربي من الأتراك العثمانيين لكنه عندما وصل إلى أعتاب الجبل تبخرت انتصاراته.
ففي حين أن الإمبراطورية التركية العثمانية الأقوى في عصرها وذات المستعمرات في القارات الثلاث لم تتمكن من كسب أي معركة ضد قوات محمد علي الغازية، استطاع أشبال الجبل الانتصار على هولاء في ثلاث معارك متتالية وإجهاض الرابعة الذي كان يقودها إبراهيم باشا بنفسه وإجباره على طلب الهدنة مع العلم أن إبراهيم باشا إستعمل في حملاته الأربعة ما يزيد على 60 ألف محارب كان هذا العدد يمثل ضعفي العدد الإجمالي لكل سكان الجبل بما فيهم النساء والاطفال والشيوخ.
بعد إنسحاب إبراهيم باشا وعودة الأتراك العثمانيين إلى المنطقة حاولوا هؤلاء إخضاع الجبل ولكن مصيرهم كان كالذي سبقهم. وبعد عامين على الحرب العالمية الأولى وعلى رأس جيش وطني من دروز الجبل هاجم البطل سلطان باشا الأطرش القوات التركية وهزمها بالقرب من العاصمة السورية ودخل دمشق منتصراً ليكون أول من يرفع العلم العربي فوق قصر الحكومة، في الثلاثين من أيلول عام 1918.
بعدها جاء دور الفرنسيين في معركة الكفر ومعركة المزرعة ومعركة المسيفرة التي توّجت بالثورة السورية الكبرى بقيادة البطل سلطان والتي قامت على أكتاف بنو معروف والذي كان لهم الفضل الأول في تحقيق الإستقلال والجلاء. هذه حقائق تاريخية مجهولة من الكثيرين لأن هناك تزوير في كتابة التاريخ فالذين كتبوا لم ينصفوا الدروز بل إقتطعوا من تراثهم الوطني والقومي ومن بطولة قادتهم وأعطوه إلى غيرهم ولا ننسى أن الثورة السورية الكبرى ألقيت أصلا على كاهل الدروز، وفي نهايتها كانت قد تنصلت كل القوى الأخرى من وعودها وتركوا الدروز وحدهم في المعركة.
وهناك حقائق أخرى يجب أن تقال. هناك من يدين دروز فلسطين لانهم لم يتركوا أرضهم ويتحولون إلى لاجئين. بالنسبة للدروز العيش تحت سلطة الطغاة أو الإستعمار هي حالة مرحلية تتغير مع الوقت ويجب المحافظة على الأرض قبل كل شيء حتى ولو خسر شيئا من حريته أو شيئاً من عنفوانه لان خسارة الأرض هي خسارة كل شيء.
ولكن كان هناك عامل آخر وهو أن القيادات السياسية التي كانت تدعي الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني أمام الغازي الصهيوني كانت في الحقيقة تتآمر عليه. ففي معركة فلسطين ضد الصهيونية كثيراً من شبابنا إنخرطوا في صفوف المجاهدين مع العلم أن القيادة العامة بأمرة الملك عبدالله الهاشمي كانت تتأمر مع الصهاينة وهذا ما حدا بالقائد الكبير سلطان باشا الأطرش أن لا يخوض تلك المعركة إلا بشروطه.
فعندما طلبت القيادة العامة من سلطان أن يخوض المعركة أجابهم: إننا مستعدون للنزول إلى المعركة بخمسة الاف مقاتل من الجبل وكل بلدة نحتلها ونحررها نسلمها إلى القيادة العامة ولكننا لا نأخذ أوامر من القيادة العامة. رفضت القيادة العامة شروطه لانها كانت قد باعت فلسطين للصهيونية وقبضت ثمنها وكانت تهدف إلى توريط الدروز في معركة خاسرة وإتهامهم كطائفة بضياع فلسطين.
نستخلص من هذه الأحداث والعبر أن الدروز عبر التاريخ لم يكن لهم أي مشروع سياسي مستقل عن العروبة بل كانت كل حروبهم في الإطار العربي أو الإسلامي ولم يحاربوا إلا الغرباء والدخلاء والمستعمرين، قياداتهم لم تتآمر يوماً مع الغريب أياً كان. لم نشعر يوماً أننا أقلية ولم نطلب يوماً حماية من أحد. لا زعماء استعراضيين لدينا بل قادة نفتخر بهم لأن التاريخ لا يذكر قيادي واحد تآمر على إخوانه بل كان همه الأول حماية الطائفة من الشر الخارجي والسهر على وحدتها وتمثيلها بصدق وإخلاص للمحافظة على كيانها ومصالحها.
هذا هو تراثنا الذي نطق باسمه الأمير الكبير أيام قليلة قبل رحيله. وهو التراث الذي يواكب هذه الطائفة الكريمة عبر التاريخ كملاكها الحارس.
رياض حسن - فنزويلا