الشيخ مكرم المصري - 24- 9- 2023
الشيخ القاضي حليم تقي الدين
بالنسبة لي كانت تجربة صعبة وحساسة أن أكتب بالحبر وعلى الكرسات سيرة حياة شيخاً شهيداً قدمَ دمائه في سبيلِ الوطن والطائفة، إنه الشيخ الشهيد القاضي حليم تقي الدين رئيس المحكمة الإستئنافية للموحدين "الدروز". فقد أثبت الله سبحانه وتعالى مكانة الشهداء في القرآن الكريم، والتي كانت بقوله، "ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءً عند ربهم يرزقون". * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون* ويستبشرون بنعمةٍ من الله وفضلٍ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
*- مولده ونشأته
ولد الشيخ القاضي حليم بن أحمد بن عبد الغفار ابن حسين بن أحمد الكبير تقي الدين في 18 كانون الأول 1922، كان منذ الطفولة ولداً مهذباً ذكياً وما أن بلغ الرابعة من عمره حتى دخل مدرسة بعقلين وتدرج في صفوفها تخرج من مدرسة الحكمة في بيروت، من ثم حاز على شهادة في الحقوق وشهادة في التاريخ الدبلوماسي من الأكاديمية اللبنانية، ونال من الجامعة اللبنانية إجازة تعليمية في التاريخ والجغرافيا وإجازة في الحقوق. كان أستاذاً في الجامعة اللبنانية لأكثر من عشرين سنة، كذلك شغل أيضاً وظيفة أمين سر الجامعة اللبنانية، ثم أصبح أستاذاً في معهد العلوم الاجتماعية، وخلال هذه المدة مارس المحاماة في الاستئناف، وترشح للانتخابات النيابية عن قضاء الشوف سنة 1964، ومن ثم انتخب عضواً في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، من سنة 1966 حتى سنة 1968 حين عُيّن رئيساً لمحكمة الاستئناف العليا وشارك في تأسيس المجلس الدرزي للبحوث والإنماء وانتخب عضواً في مجلس أمنائه، شارك في تأسيس المكتب الدائم للمؤسسات الدرزية سنة 1982 وکان من أعضائه العاملين. كما شارك في وضع الثوابت الإسلامية العشر من مفتي الجمهورية اللبنانية ونائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى وعدد من كبار الشخصيات الإسلامية سنة 1983. تزوج من الدكتورة ادال حمدان تقي الدين في العام 1965 ورزق منها ولدين وإبنة وهم أسامة، هلا ومكرم.
*- صفاته
كان فضيلة الشيخ يملك شخصية دينية توحيدية مرموقة وفي نفس الوقت اكتسب ثقافة دنيوية عالية ومزج بين الثقافتين، كذلك حاول أن يستخلص منها نهجاً يسير عليه الشباب الموحدين "الدروز" بحيث يحافظون على توحيدهم وفي نفس الوقت يسايرون روح العصر المتطورة.
*- حياته العملية وشهرة واسعة
لقد كان للشيخ حليم تقي الدين اليدّ الطولى في تأسيس المجلس الدرزي للبحوث والإنماء، وفي تطوير مسيرته علماً وعملاً ونهجاً. لقد أولى تلك المؤسسة كل عناية واهتمام وكان يرى أن الموحدين "الدروز" بحاجة إلى نمط جديد من الفكر والعمل لمعالجة مختلف المشاكل التي يواجهونها. وكان في طليعة الذين ساهموا في إنماء النهضة الفكرية لدى الموحدين الدروز بفضل تلك المؤلفات التي وضعها. فمن مقاعد التدريس إلى بناء المؤسسات الدرزية إلى قوس القضاء المذهبي، ساهم الشيخ حليم في دفع عملية الانتقال من مرحلة العمل الفردي الموروث بجميع أثقاله وتقاليده إلى العمل الجماعي حيث حقق شهرة واسعة في العمل المؤسساتي وبجميع ابعاده وطموحاته وآفاقه الواسعة يحدوه في ذلك إيمانه الراسخ بالله والوطن.
كان يؤمن بالعلم كأداة لتطوير المجتمع وإصلاحه ولم يرى بين الدين والعلم اي تناقض كالذي وقع به الكثير من المثقفين والمفكرين. لقد كان رجل المرحلة الحساسة بكل ما فيها من مصاعب وتعقيدات سياسية كانت أم اجتماعية. وكان يعلم بتلك المشاكل ويعمل بشكلٍ دائبٍ لمواجهتها. فقد كان يحمل عبء مجتمعٍ بكاملهِ ويعمل بجهدٍ وبكفاءةٍ عاليةٍ وبإخلاصٍ قلَّ نظيرهُ بين مشايخ عصره في تلك الظروف الحساسة والدقيّقة.
يصحّ القول بأن نَصِفَ فضيلة القاضي الشيخ حليم تقي الدين بأنه عبارة عن مؤسسة في رجل، والإثبات على قولي هذا، أن المجلس الدرزي للبحوث والإنماء والذي أسَّسَهُ لا يمكن أن ينسى له نشاطه وديناميكيته النادرة التي كان يدفع من خلالها العمل والتفكير القفزات إلى الأمام، كما لا يمكننا أن ننسى دوره في إرساء قاعدة العمل المحاكمي المنظم داخل الطائفة التوحيديَّة ولا سيما تأسيس القضاء المذهبي الدرزي ومساهمته في تأسيس المكتب الدائم للمؤسسات التوحيديَّة. ولم يمنعه عمله القضائي والتأليفي من الخوض في غمار الصراع الراهن دفاعاً عن الحق والمبادئ الإنسانية التي آمن بها. ولا تحرجه في ذلك عصبية طائفية ولا شعور بالانغلاق أو نزوة انعزال أو تحجر. فتفكيره اللبناني الصحيح لم يكن ليناقض تفكيره العربي الصافي منطلقاً من أن الموحدين الدروز كانوا وما زالوا أول من أرسى مفهوم الوطنية الحقة في هذا الوطن إذ لا مشكلة هوية عندهم فهم لبنانيون أصحاء ناهيك عن دور الموحدين "الدروز" في الدفاع عن قضايا العرب المسلمين في هذه المنطقة منذ قرون طويلة إذ لا مشكلة قومية لديهم فهم عرب أقحاح.
من هذا الوعي التراثي للموحدين الدروز انطلق في تحليله للصراع القائم في الجبل اللبناني ومن مسلمة التعايش والانصهار الوطني تكررت دعواته للعودة الى الأصالة اللبنانية واستمرت مطالبه التي لم تلن في سبيل نبذ الأحقاد الطائفية ووضع حد للصراع الدموي بين ابناء الوطن الواحد، ولم يتردّد في خوض غمار هذا الصراع لحظة واحدة ليقينه أن هذا الصراع الذي سببته في الجبل قلة حاقدة أعماها الضلال سيؤدي إلى تدمير الوطن والإنسان فيه. ولم ينسَى لحظة واحدة انتماء لبنان إلى محيطه العربي. فخياره العربي كان دائماً، فلم يتردد في خوص غمار الصراع البارز على الساحة اللبنانية الى جانب من آمنوا بقضايا هذا الوطن الحقة، وأرادوه بلداً عربياً ديمقراطياً تتعايش فيه جميع الطوائف والمذاهب رافعاً راية الوحدة بين المذاهب الإسلامية التي آمن بها عقيدة وتراثاً ولم يثنه عن إيمانه هذا تهديد ولا وعيد.
ومن هذا المنطلق وقف إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد ليؤدي صلاة العيدين المباركين الفطر والأضحى مرسياً بذلك وحدة المذاهب الإسلامية. ومن مشاركته في وضع الثوابت الإسلامية أرسى قواعد وحدة الموقف الإسلامي السياسي في الصراع الدائر. ومن حسه الإنساني المرهف تعاطف مع جميع المحرومين والمهجرين وتبنى قضيتهم ومطالبهم، وسعى للتخفيف من وطأة مآسيهم وحرمانهم وتهجيرهم.
كانت جميع هذه الثوابت والمسلمات الدينية والأخلاقية والفكرية والسياسية الحصن المنيع الذي ساهم في بنائه فضيل الشيخ ليقف حاجزاً في وجه المتآمرين على سلامة لبنان وشعبه. لقد عايش فضيلة الشيخ القاضي حليم تقي الدين جميع مشاكل بني قومه ومجتمعه ومحيطه في الصميم دون أن يتوانى عن المساهمة في مواجهتها حتى وإن وجد نفسه أحياناً كثيرة يناضل منفرداً غير عابئ بأي خطرٍ أو تضحيةٍ. إنما كان في ذلك اشبه بالجندي المستبسل في ساحة المعركة يتصدى منفرداً لجبهةٍ عاتيةٍ بكاملها وظلَّ يدافع عن موقفه هذا حتى الإستشهاد.
*- ابرز مؤلفاته
قضى معظم حياته في البحث والتأليف فنشر المقالات العديدة والبحوث القيّمة كما أنه اصدر أربعة كتب:
حليم تقي الدين، قضاء الموحدين الدروز في ماضيه وحاضره، مطابع لبنان الجديد، لبنان، .1979 يتضمن هذا الكتاب تطور وضع القضاء المذهبي منذ عهد الفاطميين، مروراً بالعهد التنوخي والشهابي وعهد المتصرفية وعهد الانتداب والاستقلال ولغاية العهد الحالي. كما يتطرق البحث الى صلاحية قضاة المذهب بما في ذلك صلاحيات المحكمة الاستئنافية العليا.
حليم تقي الدين، الأحوال الشخصية عند الدروز، دار العودة، لبنان، 1981. يتناول الشيخ حلم تقي الدين في هذا الكتاب عدة مواضيع حيث يقول: لكل طائفة في لبنان أحوالها الشخصيى ، ولها أيضاً محاكمها وجهازها القضائي وأصول محاكمات خاصة بها. والأحوال الشخصية عند الموحدين-الدروز هي تراث من تقاليدهم الاجتماعية واجتهاداتهم المذهبية منذ القدم، وقد تفننت هذه التقاليد والاجتهادات أو أكثرها، في قانون خاص، عرف بقانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، صدر في 24 شباط 1948.
ويتابع بالقول: إن أحكام هذا القانون مستمدة في أكثرها من المذاهب الإسلامية الخمسة: الحنفي، المالكيين الشافعي، الحنبلي، الجعفري، مع أحكام خاصة مستمدة من تقاليد الدروزواجتهاداتهم المذهبية. وإن هذه الأحكام الخاصة، تتباين مع الأحكام المطابقة لدى محاكم الطائفة السنية المستمدة من قانون حقوق العائلة وأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ولدى محاكم الطائفة الشيعية المستمدة من المذهب الجعفري وما يتلائم مع هذا المذهب، من أحكام قانون حقوق العائلة.
حليم تقي الدين، ديوان والده الشاعر أحمد تقي الدين، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء، لبنان، 1982.
يمكنني القول بأن الشيخ أحمد تقي الدين كان شاعر القضاة وقاضي الشعراء، له مؤلف نشر كتابه الشيخ حليم تقي الدين برعاية منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء يحتوي مجموعة من شعره، وما قيل فيه قاضياً وشاعراً
حليم تقي الدين ومرسل نصر، الوصية والميراث عند الموحدين الدروز، يقول الشيخ حليم تقي الدين في هذا الكتاب، تفيد المادة 145 من قانون الأحوال الشخصية لطائفة الموحدين الدروز، أن الوصية هي تمليك مضاف الى ما بعد الموت بطريق المتبرع. ويشترط لصحة الوصية، كون الموصي بالغاً عاقلاً مختاراً أهلا للتبرع، والموصى به قابلاً للتمليك بعد موت الموصي. لا تنفذ الوصية اذا كانت تركة الموصي مستغرقة بالدين، الا اذا ابرأه الغرماء أو أجازوا الوصية. في حين تصح الوصية بكل التركة أو ببعضها لوارث أو لغير وارث. يحرم الموصى له من ما أوصى له به، اذا أقدم على قتل الموصي عمداً أو قصداً. أما اختلاف الدين والملة، فلا يمنع صحة الوصية. كما يملك الموصى له الموصى به، بوفاة الموصي مصراً على وصيته ما لم يرد الموصى له الوصية، فاذا ردها يوزع نصيبه من الوصية بحسب الفريضة الشرعية. وللموصي أن يرجع عن الوصية كلها أو بعضها، وأن يدخل عليها أو يبدل فيها ما يشاء. فبحسب المادة 154 من القانون ذاته، اذا هلك الموصى به في يد أحد ورثة الموصي بدون تعدية، فلا ضمان عليه، أما اذا استهلكه، فيكون ضامناً له.
واذا توفي أحد الموصى لهم قبل الموصي، ولم يعدل الموصي وصيته قبل وفاته، فإن كان للموصى له المتوفي وارث، يعود نصيبه لورثته حسب الفريضة، وإن لم يكن له وارث، فيعود نصيبه الى الأحياء من ورثة الموصي. أما اذا توفي الموصي والموصى له في وقت واحد، ولم يثبت أيهما توفي قبل الآخر، فتصبح الوصية من حق ورثة الموصي له، واذا لم يكن للموصى له وارث، فتوزع الوصية بين ورثة الموصي، بحسب الفريضة الشرعية. وإذا أوصى الموصي قبل الزواج، ثم تزوج وزرق ولداً، أو أوصى بعد الزواج ولم يكن له ولد ثم رزق ولداً، تبطل وصيته هذه، وتوزع تركته حسب الفريضة الشرعية مع مراعاة أحكام المادة 169 من هذا القانون (وتفيد هذه المادة بأنه يعود في مسائل الإرث الى أحكام الفرائض الشرعية باستثناء الأحكام المتعلقة منها بالآتي:
*- استشهاده
امتدت أيادٍ الغدر في شهر كانون أول من عام 1983 وغدرت بالشيخ حليم تقي الدين في منزله وأودت بحياته. وكانت هذه العملية قمة النذالة والجبن والانحطاط لأن القاتل دق باب الشيخ فاستقبله فضيلته كضيف ورحب به ولما دخل البيت طلب منه بطاقة توصية واثناء تحريرها له اطلق عليه الرصاص من مسدسه وفرَّ هارباً.
وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدل على خيانة القاتل ومن كان وراءه وعلى الدرجة الدنيئة التي يمكن أن يصل إليها من يعجز عن المجابهة في ساحات القتال فيلجأ إلى قتل العزل والأبرياء.
وفي موته خسرته عشيرته والمسلمون المخلصون في لبنان والذين لم يقعوا في فخ التشكيك في وحدة لبنان، والذين لم يقعوا فريسة التعصب والحقد الطائفي. فاليدّ الغادرة التي امتدت إليه إنما امتدت لتقتل الإنسان الوطني في لبنان بكل ما للوطنية والإنسانية من معان سامية.
فبحسب ما ختم الأخ رفيق البعيني مقالته تذكروا تاريخ لبنان ورجالاته(11) الشيخ حليم تقي الدين رئيس المحكمة الإستئنافية للموحدين الدروز الأسبق، والتي إعتبرتها مصدراً من المصادر الأساسية في هذه الدراسة فإن سبب اغتياله يعود للصداقة التي ربطته بالمرحوم الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية الأسبق والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين المفتي الشيعي الجعفري الممتاز الاسبق التي وحدت المذاهب الاسلامية آنذاك. وكذلك في مقالاته التوجيهية اليومية التي كان يصدرها في الصحف يومياً والتي كانت تدعو للوحدة وانهاء الحرب الأهلية ولإظهاره الدور المهم الذي كان لمذهب التوحيدي في الخريطة السياسية والتاريخية اللبنانية، كل ذلك كان سبباً في قرار ازاحته عن الساحتين اللبنانية والإسلامية. وبعد حزنٍ شديد وبخسارة رجلاً من رجالات الوطن الوطنيين المثقفين الشرفاء شيِّع جثمانه الطاهر وصُلّي عليه في دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت بحضور صديقيه المفتي حسن خالد الذي اغتيل هو الآخر فيما بعد والشيخ محمد مهدي شمس الدين وجمهوراً كبيراً جداً ثم نقل الى مسقط رأسه بعقلين حيث أقيم له مأتم آخر تكلم فيه عدد من كبار شخصيات البلاد وقد وري الثرى في مدافن العائلة . و في السنة الثانية أقامت له في الجامعة الأميركية في بيروت حفلة تأبينية بمناسبة الذكرى السنوية في أول كانون الأول 1984.