الشيخ مكرم المصري - 7- 10- 2023
الأستاذ الدكتور عباس أبو صالح
المُؤرِّخ هو العالِم الّذي يدرس ويدوّن ويبحث عن المعلومات القيّمة ليحقّق إنجازًا أو اكتشافًا جديدًا في التّاريخ، ويُعدّ مرجعاً في هذا العلم، وكلامه عادةً ما يكون محل ثقة في السّرد التاريخي؛ والمؤرخون يهتمّون بالسرد المنهجي المتتالي والبحث في الأحداث الماضية وعلاقتها بالجنس البشري. وقد تحوّل التأريخ إلى مهنة في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك بتحديد معايير معيّنة لمن يريد احتراف المجال.
والتاريخ ليس كتابة تاريخ فرد، أو حادثة تاريخية، أو تاريخ شعب وأمة، أو التاريخ الكليّ أي التاريخ الإنسانيّ الشامل، وإنما هو تحليل الأحداث التاريخية وفهمها عن طريق منهجٍ يصف ويسجّل ما مضى من وقائع وأحداث، ويحلّلها ويفسرها على أسس علميّة صارمة بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي والحاضر، وتطلّعٌ، وقراءة لبعض المواقف الحساسة في المستقبل. كل هذه القيم التاريخية التي ذكرتها كانت موجودة في يوميات مؤرخنا ومرجعنا، المغفور له الأستاذ الدكتور عباس أبو صالح.
*- مولده ونشأته
ولد الدكتور عباس أبو صالح في قرية "البتلون"، قضاء الشوف، محافظة جبل لبنان، سنة 1943، تلقى علومه الإبتدائية في مدرسة البلدة وقد ظهرت عليه النباغة والفطرة وتدوين المعلومات، والذاكرة القوية منذ نعومة أظفاره، ثم انتقل إلى "مدرسة بعقلين" لمتابعة دراسته، وبعدها إلى "مدرسة شارون كلية سعيد الشرتوني" حيث أحرز فيها الشهادة التكميلية سنة 1958، ثم إنتقل لمتابعة دراسته في "ثانوية العهد الجديد" في بحمدون لصاحبها الياس خير الله، والتي تخرج في صفوفها أشهر المؤرخين والأطباء والمهندسين. ومن بعدها نال شهادة البكلوريا اللبنانية في "مدرسة الشويفات الدولية" سنة 1961.
*- شهاداته الجامعية
اِلتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية جامعة الوطن، وهي الجامعة التي أحبها مؤرخنا وعدّها منزله الثاني، واستطاع وبكل جدارة إحراز إجازة في التاريخ بتفوق. ونتيجة هذا التفوق المبهر كافأه استاذه الدكتور فؤاد إفرام البستاني بتقديمه جائزة ذات قيمة معنوية لكل مؤرخ. من بعدها تابع تعليمه ونال أيضاً شهادة تعليمية من وزارة التربية الوطنية، وعُيّن أستاذاً للتعليم الثانوي في ملاك وزارة التربية والتعليم العالي في ثانوية طرابلس للبنين عام 1966، كما علّم في الكلية الوطنية في بعقلين.
*- دراسته في الخارج
غادر الدكتور عباس أبو صالح أرض الوطن متّجهاً نحو بلاد الغرب، أو كما يُقال في علم الجغرافيا إلى دول عالم الشمال. تابع دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية فنال شهادة الماجستير في التاريخ في جامعة "تكساس" أوستن، عام 1969. ثم نال شهادة الدكتوراة في الجامعة نفسها سنة 1971، لينطلق بعدها في الغوص في بحر التاريخ والتأريخ.
حصل الدكتور عباس على عدة منح بسبب التفوق الأكاديمي الذي كان يحرزه أهمها:
*- عودته من المهجر وحياته المهنية
وبعد فترة تعلّمية مميزة مليئة بالنجاح والتفوق عاد الدكتور عباس إلى أرض الوطن حاملاً شهادة الدكتوراه في التعليم من جامعته، وكان هدفه هدف كل موحد شريف «حرام على المتعلم أن لا يُعلّم مجتمعه»، فبدأ رحلة التعليم في الجامعة اللبنانية، وراح يتقدّم في الرتب حتى وصل الى رتبة أستاذ وللتوضيح رتبة أستاذ في الجامعة اللبنانية هي رتبة بروفيسور يحصل الدكتور عليها بعد تعب وكدّ وسهر ليلي في البحث، ويشترط عليه أن يكون يملك عددًا معينًا من المؤلفات التاريخية وعددًا لا يُسهان به من الأبحاث العلمية المنشورة. بقي الأستاذ الدكتور عباس أبو صالح في الجامعة اللبنانية حتى العام 2001 عندما قدم استقالته ليتفرغ أكثر وأكثر إلى كتابة التاريخ وتدوينه. خلال فترة تعليمه في الجامعة اللبنانية عُيّن في عدة مراكز ومناصب، أهمها:
بعد إستقالته من الجامعة اللبنانية في العام 2001 كان يتطلّع للتفرغ للكتابة والتأريخ، ولكن شاء القدر أن يبعده ثانيةً عن وطنه الذي يحبّ والذي يعدّه الأغلى على قلبه، فقد سافر الى عمان- صلالة، حيث مارس التعليم في جامعة ظفار، كما عُيّن عميداً في قسم الاجتماع منذ تأسيسها تحت إشراف الجامعة الأميركية في بيروت وبقي فيها حتى العام 2011.
*- مؤلفاته
على الرّغم من أنّ الدكتور عباس أبو صالح إنصرف إلى التعليم، والتعليم رسالة، وكان أميناً على رسالته ومرشداً هادياً يهدي تلاميذه إلى الخير، كذلك كان يحثّهم على البحث والتفتيش والتدقيق والموضوعية في التحليل، فقد كان في الوقت عينه منكبّاً على وضع الدراسات والأبحاث في مختلف المجالات العلمية والأكاديمية والجامعية. واستطاع على الرّغم من كل التعب والمسؤوليات الّتي أُوكلت اليه أن يؤلف عدداً من الكتب التي اتّسمت بالبحث العلمي الدقيق وبغني المراجع والمصادر، وبالدقة في العمل الذي استنفد منه جهداً وعملاً واسعاً ووقتاً طويلاً لإنجازه. ومن أبرز هذه الكتب التي أصدرها:
1- تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي
يتناول هذا الكتاب تاريخ الدروز السياسي بطريقة علميّة ومنهجيّة توخّى فيها الاعتماد على المصادر الأساسية، بخاصة المصادر الدرزية المخطوطة التي لم يتسنّ لكثير من المؤرخين السابقين الاعتماد عليها.
ويشمل هذا البحث تاريخ الموحدين الدروز في المشرق العربي منذ بروزهم على مسرح الأحداث السياسية في الدولة العربية الإسلامية حتى نهاية ثورتهم ضد الانتداب الفرنسي، وهو تاريخ سياسي عامّ لم يتناوله أحد من قبل من حيث شموله وتفصيله.
وللإلمام بهذا الموضوع توزّع الكتاب على أحد عشر فصلاً وفق ما يلي: الفصل الأول: "أسلاف الموحدين الدروز"، الفصل الثاني: "دعوة التوحيد الدرزي؛ الظروف التي نشأت فيها الدعوة"، الفصل الثالث: "الموحدون الدروز خلال دعوة التوحيد"، الفصل الرابع: "الموحدون الدروز في عهد الإمارة التنوخية"، الفصل الخامس: "الموحدون الدروز في عهد الإمارة المعنية"، الفصل السادس: "الموحدون الدروز في عهد الإمارة الشهابية"، الفصل السابع: "الموحدون الدروز في جبل حوران؛ الثورة ضد إبراهيم باشا"، الفصل الثامن: "الموحدون الدروز في لبنان خلال فترة الحروب الأهلية 1840- 1861م"، الفصل التاسع: "الموحدون الدروز في لبنان منذ عهد المتصرفية حتى نهاية الحرب الكبرى"، الفصل العاشر: "الدروز في جبل حوران منذ جلاء محمد علي حتى الحرب العالمية الأولى"، الفصل الحادي عشر: "ثورة الموحدين الدروز ضد الإنتداب الفرنسي 1925- 1927.
2-التاريخ السياسي للإمارة الشهابية في جبل لبنان (1842- 1697).
يمثّل تاريخ الإمارة الشهابية في جبل لبنان مرحلة انتقالية هامة في تاريخ لبنان الحديث، إذ يتوسّط تاريخ الأمراء الشّهابيين في ذلك الجبل ما يمكن إعتباره مرحلة الإمارة العربية التي وضع أسسها الأمراء التنوخيون منذ أوائل العصر العباسي في أواسط القرن الثامن للميلاد ومرحلة تأسيس كيان طائفي في أواسط القرن التاسع عشر...
إلا أن تاريخ الإمارة الشهابية لم يكتب كله حتى الآن بطريقة علمية ومنهجية كما لم يدرس بعد كوحدة متكاملة في سياق التاريخ اللبناني، وقد حاولنا في هذه الدراسة كتابة تاريخ سياسيّ مفصَّل لتلك الإمارة في جبل لبنان منذ أن ورث الشهابيون الإمارة المعنية إلى أن كانت نهاية الإمارة الشهابية في عهد بشير الثالث عام 1842، ومهّدنا لهذه الدراسة ببحث عن ميزات نظام الحكم المقاطعجي في الإمارة، ثم عرضنا الأسباب والظروف التي أدّت إلى خلافة بشير الشهابي الأوّل للأمير أحمد المعني.
وعالجنا في الفصول اللاحقة أبرز الحوادث التي شهدتها الإمارة الشهابية في القرن الثامن عشر وخصوصاً موقعة عين دارا وآثارها العسكرية والسياسية، ثم مسألة إنقسام الحزب القيسي إلى فئات سياسية ثلاث، وما حدث بينها وبين الأمير الشهابي الحاكم من صراع، وخصّصنا لعهد بشير الثاني ثلاثة فصول من هذه الدراسة تعقّبنا خلالها أبرز الأحداث التي جرت خلال فترة حكمه الطويلة، وعرضنا في فصلين آخرين أهم التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها الإمارة الشهابية، لا سيما في النّصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم عقدنا الفصل الأخير من هذه الدراسة لعهد بشير الثالث وما جرى فيه من أحداث أدّت إلى زوال الإمارة الشهابية.
3- الأزمة اللبنانية عام 1958 على ضوء وثائق نشرت لأول مرة.
يكشف الدكتور عباس أبو صالح لأوّل مرة مستنداً الى الوثائق الأصلية، عن أزمة لبنان 1958، وينقض فيها عددًا من الروايات والكتابات السابقة. لقد كانت أزمة سياسية بسبب توترات سياسية ودينية في البلد. وتدخّل فيها الجيش الأمريكي ليخفّف التوتر، وظلّ التدخل الأمريكي قائماً ثلاثة أشهر متواصلة، حتى انتهت الفترة الرئاسية للرئيس كميل شمعون الذي كان قد طلب من الولايات المتحدة الأمريكية المساعدة في الحدّ من التوتر في لبنان؛ الأزمة انتهت وانسحب الجيش الأمريكي بعدها بفترة قليلة. كما صُنّف هذا الكتاب الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب وقد حصل على المرتبة الثالثة.
4- أبحاث في التاريخ السياسي والإجتماعي للموحدين الدروز
في عودة إلى التاريخ السياسي للموحدين الدروز في العصر الوسيط أو إلى العصر الذي أصبح فيه الدروز أصحاب مذهب ديني خاصّ بهم؛ بل في عودة إلى أول دور سياسي قام به الدروز، يجد الباحث أن ذلك الدور هو ما قام به أسلاف الموحدين الدروز، التنوخيون اللخميون، منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام، أي قبل دعوة التوحيد الدرزية بعدّة قرون.
ويذكر الأشرفاني أحد علماء التوحيد، أن قسماً من تنوخ جاء إلى لبنان منذ الفتح الإسلامي، وقسمًا آخر ساهم بعملية الفتح الإسلامي لبلاد الشام إلى جانب قادة الفتح الكبار كخالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، واستقر هذا الفرع التنوخي في معرّة النعمان مكافأة له على جهاده ضد البيزنطيين.
ويأتي العصر العباسي فينحاز التنوخيون للثورة العباسية، ويكلّفهم الخليفة أبو جعفر المنصور بمهمة عسكرية في لبنان، وهي مهمة التصدي لغزوات البيزنطيين وأعوانهم في المنطقة الوسطى من لبنان، وهكذا رحلت بقية العشائر اللخمية التنوخية إلى لبنان، ونزلت في الأماكن الجبلية الاستراتيجية المطلة على الشاطئ والممتدة من مصبّ نهر الكلب شمالاً حتّى مصبّ نهر الأوّلي جنوباً.
وقد ظهر من خلال هذه المهمة العسكرية أول دور سياسي لأسلاف الموحدين الدروز، وهو دور عسكري بالدرجة الأولى، والمعارك التي جرت بين هذه العشائر الدرزية الأولى كمعركة نهر الموت ومعركة إنطلياس وغيرها، برهنت على قدرة أسلاف الموحدين الدروز على القيام بهذه المهمة.
إنّ الدور العسكري أعطى أسلاف الموحدين الدروز دوراً سياسياً، لم يقم بمثله أيٌّ من أقرانهم في بلاد الشام؛ وكان هذا الدور السياسي يتعاظم أمام طموح الدروز وكفاءاتهم القتالية، فإذا بدورهم العسكري يتعدى حدود مناطقهم وجوارها ليشتركوا في القتال إلى جانب هذا الخليفة أو ذاك السلطان خارج مناطقهم.
رافق الأمير مسعود الأرسلاني التنوخي مثلاً مع فرسانه الخليفة المأمون إلى مصر واشترك معه في حربه ضد الأقباط، وبسبب كفاءة الدروز وتمرّسهم في القتال كافأهم المأمون سياسياً، فأضاف إلى ولايتهم التقليدية في الغرب ولاية صيدا ومقاطعة صفد...
إذن، كان الدور السياسي للموحدين الدروز يقاس بمقدرتهم العسكرية، ولم يطرأ أي تعديل مهم على هذا الدور بعدما أصبحوا جماعة مميزة من حيث العقيدة الدينية في القرن الحادي عشر...
وهكذا يتابع المؤرخ عباس أبي صالح دراساته التاريخية والتي جاءت ضمن أربعة عشر بحثاً تدور حول محور رئيس واحد: الدور السياسي والعسكري الحاسم الذي اضطلع به الموحدون الدروز لحماية الثغور العربية والإسلامية في مواجهة الغزوات الخارجية، ثم دورهم في حماية إستقلال الكيان اللبناني في مواجهة حملات إبراهيم باشا مرّة والعثمانيين مرة أخرى، وأخيراً دورهم الوطني والقومي وصيانتهم لوحدة الجبل، ولبنان في تنوعه وغناه الديني، والثقافي عموماً.
وإلى هذا، فإن الجديد الذي سيجده القارئ في الكثير من مباحث الكتاب هو نظرته الغائية إلى كشوفات علم التاريخ ومباحثه، وبخاصة في الفترة الحرجة هذه التي يحياها وطنه وأبناؤه، حيث تمزّق تاريخهم الواحد الجامع إلى تواريخ فئوية تزيد من انقسامات المجتمع اللبناني بدل أن تسعى إلى بلسمة جراحه.
وأخيراً يمكن القول بأن الكتاب في مادته ومنهجه إنّما يُمثل عملاً علميّاً موضوعيّاً من جهة أولى، كما يخدم، من جهة ثانية، الأهداف الوطنية المشتركة للمجتمع اللبناني، وفي لحظته المعاصرة على وجه التحديد.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل للدكتور عباس أبو صالح هو عمل جديد له، وهو المنشور بعد ثلاث سنوات من رحيله، والذي بذلت فيه أسرته، وبخاصة زوجته، جهداً في جمع الوثائق المنشورة من هذا الكتاب، وتأمين سبل وصولها إلى القارئ الذي عرف الدكتور أبي صالح في أعمالٍ سابقة بالغة الأهمية، هذا ويعدّ العمل الجديد هذا حلقة إضافية في السلسلة نفسها.
5- مقالات في التوحيد
يتضمّن هذا الكتاب مجموعة مقالات تتناول جوانب متعدّدة تتعلق بالموحدين وبمذهب التوحيد. وهي ترمي إلى التأسيس لقراءة عقلانية ومعاصرة فجمعت بين التراث الفلسفي للتوحيد والتراث المذهبي الدرزي إلى قراءات في بعض النصوص الينابيع الهامة، كلّ ذلك في هذا الكتاب، بدايةً لمشروع تطويريّ تحتاجه الجماعة التوحيدية ويحتاجه محيطها.
6- الثورة ضدّ إبراهيم باشا في سوريا
يتحدث هذا الكتاب عن الثورة والانتفاضة التي قام بها الموحدون الدروز ضد سلطة إبراهيم محمد علي باشا، وبشكل فعال ضد إيالة مصر التي حكمها محمد علي باشا. قادت التمرد عشائر الموحدين الدروز في جبل لبنان بهدف طرد القوات المصرية في ظلّ حكم إبراهيم باشا الّذي عدّهم كفارًا. قُمع التمرد من قبل إبراهيم محمد علي باشا بعد هزيمة كبرى للموحدين في وادي التيم واستعادة الحكم المصري فعليًا في الجليل وجبل لبنان من خلال اتفاقية سلام موقعة بين المصريين وزعماء الدروز في 23 تموز 1838. كانت مدينة صفد إحدى مواقع العنف الرئيسة حيث تعرضت الجالية اليهودية لهجوم من الثوار الدروز في أوائل تموز 1838. تصاعدت التوترات بين الدروز والمصريين منذ تمرّد الفلاحين الشوام عام 1834. استاءت الطبقات الحاكمة في المنطقة من السلطة المصرية وقاوم الدروز على وجه الخصوص حكم إبراهيم محمد علي باشا الذي اعتبر شخصيًا الدروز زنادقة وقمعهم. تسبّب قرار التجنيد للجيش المصري في إشعال التمرّد نفسه، وفي الختام، لأن عقيدة الموحدين تُحرم التعدي على أحد، وتُحرّم على الموحدين عدم الرّدّ على من يريد التعدي عليهم، فقد نصرهم الله سبحانه، واستطاعوا القضاء على الجيش المصري بقيادة الطاغية إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي الثاني، وحققوا الاستقلال بطرد ابراهيم باشا واتباعه من مرفإِ جونيه.
7-الموحدون الدروز المزارات والمقامات الروحية في لبنان سيرة وتاريخ
يُشكل الكتاب الصادر حديثًا مساهمة مهمة في التعريف بالمزارات والمقامات الروحية للموحدين الدروز في لبنان، واستكمالاً لنشر السياحة الدينية الثقافية في لبنان وتعزيزها، قدّم له سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى والدكتور أنطوان مسرّه، بالتعاون مع جامعة القديس يوسف.
نواة هذا الكتاب هي ثمرة مخطوطة للمؤرخ الراحل الدكتور عباس أبو صالح، وقد اكتشفتها عقيلته مي أبو صالح. يرد في تقديم الكتاب لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى ونقلاً عن كتابه: المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز: « يسرني الاستشهاد بما عبرت عنه في كتابي من معانٍ توحيدية مع تأكيدي على أهمية هذا العمل الذي تطلقه كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف والذي يساهم في التعريف بالأماكن الدينية عند مختلف العائلات الروحية وتنشيط السياحة الدينية الثقافية، الأمر الذي يساهم في نشر ثقافة التعارف والحوار وترسيخ مفاهيم المحبة والرحمة والأخوة«.
وما يميز هذا الكتاب أن مقدمته تعود للمؤرخ الراحل منذ أحد عشر عاماً الدكتور عباس أبو صالح: "حبا الله لبنان بجمال الطبيعة المقترن بصفاء الروح وعظيم القيم التي تمثلها أماكن العبادة على تنوعها." ويتضمن الكتاب رصدًا وصورًا لـتسعة عشر مقاما ومزارا في لبنان، مع تعريف لكلٍّ منها، وفي الختام السيرة الذاتية ومؤلفات المؤرخ عباس أبو صالح.
كما يملك المؤرخ الرّاحل في سجّله المليء بالعلم والثقافة عدداً كبيراً من المقالات العلمية المنشورة في أكبر المجلات مثل كورونس وغيرها وباللغات الثلاثة العربية، الإنجليزية، والفرنسية، بالإضافة إلى دراسات جامعية وفلسفيّة أعدها لطلاب الجامعات بعضها نُشر عربياً وعالمياً؛ كما إنه أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. هذا إلى جانب المخطوطات الموجودة التي تتولّى زوجته السيدة مي القاضي أبو صالح الاهتمام بطبعها.
كذلك أقيم للدكتور المؤرخ عباس أبو صالح عدّة تكريمات منها حفل تكريمي في دار الطائفة في فردان، تولته اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي وأصدرت له كتيّبا فيه نبذة عن حياته تكريماً لعطاءاته، بتاريخ الأول من حزيران 2011. وقد كان يودّ حضور المناسبة، لكنّ المرض اشتدّ عليه فلم يتمكن من الحضور، مما ولّد الغصة في قلبه وقلوب عائلته ومحبّيه.
وفي مقابلة صحافية أجرتها معه مجلة الضحى الصادرة عن المجلس المذهبي في شهر أيلول 2011، قال إنه من أولى اهتماماته بعد الحرب الأهلية كان توحيد منهج التاريخ مستنداً إلى وثيقة الطائف التي أقرت بوجوب توحيد كتاب التاريخ المدرسي، استجابة لمطلب وطني قديم يعود إلى عهد الاستقلال. وإذا كان من المبالغة القول بأن عدم وجود تاريخ موحد للبنان كان سببا من أسباب الحرب الأهلية الطويلة، فإنه من غير المشكوك فيه أن خلاف اللبنانيين في نظرتهم لتاريخ لبنان، وبالتالي لهوية لبنان السياسية والحضارية وعلاقته بمحيطه والغرب، كان ولا يزال سبباً من أسباب نشوء الأزمات وتفاقمها وربما انفجارها على شكل أحداث دامية كما حدث خلال الحرب الأهلية الطويلة؛ ذلك لأن الخلاف في النظرة إلى هذا التاريخ أو الماضي كان بمثابة مادة أيديولوجية استخدِمت، أو اشتغلت لشحن نفوس المقاتلين بالبغضاء والعداء لأية جهة انتموا إليها خلال الحرب.
لقد طوى الموت باكراً مؤرخنا الغالي فعزّ علينا الرحيل، فقد عُرف بالصدق والأمانة العلمية، والنزاهة في كتاباته حتى إنّ القارىء له لا يميّز هويته ، فقد أحب وطنه وحارب الطائفية ورفض الإشتراك ببرنامج تلفزيوني بعد قراءة الأسئلة التي أحسّ فيها نعرة طائفية تُفرّق، فعارض على أسلوبه، رافضاً إيّاه، لأنه آمن بلبنان الواحد الموحدّ.
وفي 5 حزيران عام 2011 غيّب الموت جسد الدكتور عباس أبو صالح، ولكنه باقٍ حيّ في قلوبنا إلى الأبد من خلال كتاباته وتاريخه. فخسرنا جميعاً مفكراً من المفكرين البارزين، ومؤرخاً من المؤرخين المرموقين الأفذاذ في الكتابة والتأليف والتأريخ والبحث الدقيق، والتعليم في نحو خمسة وثلاثين تحبيراً للمقالات وتسطيراً للكتابات الرصينة.