المؤرخ الخوري يوسف أبي صعب:العيش المشترك ضرورة وحاجة لبقاء لبنان"

بقلم المحامي 

شارل الخوري يوسف أبي صعب

12/ 9 / 2022

في خضم الاجواء المصيرية التي يشهدها لبنان اثر التدهور الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، لا يسعنا سوى ان نستذكر العبر من الماضي – الماضي القريب – ربما التاريخ يعيد نفسه، لكن في فترات متعاقبة ومتفاوتة وذلك بعد الاخذ بعين الاعتبار المقومات التي نهضت على اساسها ركائز هذا الوطن المعذب الممزق الاوصال والتي مهما ساهم البعض في لحمتها وتضميد جراحها تظل نتائج حروقها تحت الرماد لا تنطفىء الّا بالادراك والوعي والتفاهم والحوار الجدي.... 

وعلى هذا الاساس نقتطف بعض ما أورده المؤرخ ابي صعب عن التعايش اللبناني او العيش المشترك بين مختلف الطوائف، لأن ما سطره المؤرخ ابي صعب في هذا المضمار دليل كافٍ ووافٍ لنتعلم منه ونقرأ بوضوح تام كيف تبنى الاوطان وتصان، وكيف يكون الولاء للبنان فقط وحده دون سواه، وكيف يتجسد العيش المشترك بأبهى مقوماته. بل يبقى المضمون يعبر عن المفاهيم والقيم التي يجب ان تبقى كأساس متين لدولة قوية كي تتمكن بالتالي من الصمود في وجه العواصف: 

"ان لبنان يضم منذ القديم في ارضه الجميلة مواطنين ينتمون الى طوائف مختلفة، وهذه هي اهم مميزاته، عاشوا متفاهمين متآخين، يعملون يداً واحدة في سبيل بناء وطنهم الصغير الذين يؤمنون بحرية المعتقد كاملة وهذه مدعاة فخر وشرف للبنان.

 وقبل الحوادث الاخيرة كان العالم يحسدنا على ما نتمتع به في هذا الوطن من طمأنينة ومن راحة ضمير، ومن استقرار وازدهار. 

وكانت خلافتنا سياسية، تفرق بيننا الغرضية الحزبية. ولمّا اجدادنا ابوا ان يماشوا العثمانيين في سياسية التفرقة عقدوا الخناصر على الاتحاد والعمل لأجل استقلال وطنهم وتحرره من العثمانيين وسياستهم المضللة، اضطهدهم جمال باشا السفاح وساقهم الى المشانق مسيحيين ومحمديين جنباً الى جنب. فامتزجت الدماء بالدماء وتقاسموا تربة واحدة. وقد جعلوا من رفاتهم ودمائهم مداميك في صرح استقلال لبنان وحريته. 

وعلى هذا كان العيش المشترك هو الحجر الاساس، راسخ الاركان عبر الاجيال بفضل تفاهمهم وتعاونهم وادراكهم للواقع. والامثلة في تاريخ لبنان على أهمية هذا العيش وفعاليته لا تحصى. نذكر بعضها: لما اجتمع زعماء الثورة اللبنانية على اختلاف مللهم في كنيسة مار الياس – انطلياس – في حزيران 1840 وكتبوا اتفاقاً وتعاهدوا على مقاومة ابراهيم باشا المصري بكل قواهم. 

وسنة 1943 اي بعد حوالي قرن ونيف، تجلت وحدتنا الوطنية باروع معانيها فقد اعطى الشعب اللبناني مرة اخرى مثلاً رائعاً في العيش المشترك فكان الميثاق الوطني اساساً للوثبة التي سجلها لبنان والتي رسمت سياسته في الداخل والخارج. 

وهو عهد اخذه اللبنانيون على انفسهم ان يعيشوا معاً باتحاد ووئام. فلا يكون لبنان يوم اعلنوا عنه بلسان المغفور له رياض الصلح، للاستعمار مقراً ولا لجيرانه ممراً، بل يبقى سيداً مستقلاً عزيزاً حراً." ثم يضيف المؤرخ ابي صعب في فصل آخر: "... ان الشعوب التي تدرّس ابناءها تاريخ احداثها وثوراتها لا لتثير الاحقاد في نفوسهم بل لتفهمهم غلطات الماضي وامراضه فيتجنبوها. ونحن في كلمتنا نقصد ما قصده اولئك المصلحون لا سيما عند ذكرنا حوادث 1841 – 1860 المنسوبة ظلماً الى الطائفية او الدين، لان المسيحية والمحمدية ليسا هما باعثا ثورات وفتن في لبنان او غيره بل بلاء الانسانية منذ اقدم العصور الى اليوم يرجع الى عدم الايمان الصادق او الفهم الصحيح لجوهر الاديان وتعاليمها...

" كتب المؤرخ ابي صعب في العديد من الدوريات اللبنانية، نشر فيها ابحاثاً قيّمة عن التعايش الاسلامي – المسيحي – واوضح مجموعة من الاخطاء التاريخية حول وقائع وردت في مؤلفات تاريخية، اضافة الى نشره وثائق ومخطوطات محفوظة في مكتبته، أغنت التاريخ وكشفت النقاب عن خفايا واحداث وثورات، انارت بنشرها ظلمات شتى، ولم يهدف من خلالها المؤرخ ابي صعب سوى التأكيد والقول ان الاولوية والاساس هو تعزيز العيش المشترك والامثلة على ذلك كثيرة من خلال نشره مقالات عدة عن التقارب والتعايش الاسلامي – المسيحي والمسيحي – الدرزي – حيث نشر ابحاثاً قيّمة عن كمال بك جنبلاط الزعيم الشّوفيّ، وعن اسرته في التاريخ، وعن اخلاق وعادات وتقاليد الدروز والمسيحيين في الجبل. 


وفي ارشيف مكتبته وثائق تثبت صحة ما نورده كرسالة الخط التي بعث بها مشايخ آل جنبلاط الى مشايخ آل الدحداح حكام فتوح كسروان في العهد الاقطاعي، وذلك بمناسبة الحادثة الاولى بين المسيحيين والدروز سنة 1841. اضافة الى رسائل ووثائق خطية اخرى تؤكد ان المؤرخ ابي صعب كان من خلال اعماله وافعاله وعلاقاته مع القادة الروحيين من مسلمين ومسيحيين على يقين بان لبنان لن يقوم ولن يبقى بمقوماته الوطنية الاساسية الّا على العيش المشترك من خلال حوار جدّي وفعّال. 

فبعض هذه الرسائل تحتوي بمضمونها على تكليف من الرئيس فؤاد شهاب للمؤرخ ابي صعب لينقلها باسمه الى قادة روحيين مسلمين كمفتي الجمهورية اللبنانية آنذاك، وسماحة العلّامة موسى الصدر، وكمال بك جنبلاط وغيرهم... 

كلها رسائل تنّم عن استقرار وعيش مشترك، وطمأنينة، ولأن الرئيس شهاب رأى في المؤرخ ابي صعب ذلك الانسان الامين، المحب لوطنه وشعبه، المنادي دائماً في كتاباته وابحاثه بالعيش المشترك والوحدة الوطنية. للمؤرخ الخوري يوسف ابي صعب مقالات وابحاث مهمة وقيّمة عن العيش المشترك بين مختلف الطوائف اللبنانية غنية بالحجج والوثائق والبراهين والمراجع التاريخية منشورة في مجلة الفصول تحت عنوان "تعايش الموارنة والدروز اختلافاتهم كانت حزبية وحدتهم ودفاعهم عن الوطن" العدد 6 سنة 1983 – ومجلة الاماني عدد نيسان 1967 ومجلة الرعية عدد تموز سنة 1966 – وفي جريدة الانباء تحت عنوان: "فخر الدين المعني والوحدة الوطنية" تاريخ 21 آب 1965 – ومقال آخر بعنوان                                                                                                            "انساب الاسر اللبنانية" في مجلة الفصول العدد 16 سنة 1985.