ايمان أبو شاهين يوسف - 24- 10- 2023
"الغربة والاغتراب". كلمتان لا يقوى الانسان ان ينطقهما دون غصة قي القلب وتعثّر في اللسان، لأنهما ينبعان من ألم المعاناة وحرقة الفراق، سواء كان السبب لهما سلبيا ام إيجابيا حيث انهما لا يتحققان إلاّ بالانفصال الذي يترك جرحا كبيراً في النفس والروح، تصعب معالجته بكل الادوية التي صنعها الانسان.
الحقيقة ان هاذان المفهومان وإن وصلا الى النتيجة ذاتها، فانهما ينتجان عن سببين مختلفين، مما يجعل الاغتراب عِلّة، والغربة احتراق.
أمّا الاغتراب فهي حالة نفسية اجتماعية، يعيشها الفرد وتسيطر عليه بشكل تام، فيصبح يشعر بأنه شخص غريب عن مجتمعه، لا يفكر كما يفكرون، ولا يسعى الى ما يسعون، ولا يقتنع بما يقتنعون، كما لا يفرحه ما يفرحهم، ولا يؤلمه ما يؤلمهم، فهو شخص غريب وبعيد كلّ البعد عن الكثير من النواحي الاجتماعية التي تتحكم بواقعه الاجتماعي والعملي، وإنه لا يشعر في مجال عمله بأنه يستطيع جني ثمرة جهوده ونشاطه، وبأنه ليس المالك الفعلي لطاقته وثروته، مما يحرمه من الوصول الى السعادة.
ربطا بما سبق، يمكن القول بأن الاغتراب صراع يعيشه الفرد بأبعاده الوجودية الثلاث: (الحسّية، الإقليمية، والميتافيزيقية)
امّا البعد الحسي: حيث يكون صراع الفرد مع القوى الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية في سبيل تحديد موقف تاريخي من كلّ ما يحدث حوله، واذا عجز في صراعه هذا، يشعر بأنه مسلوب الذات ومستهلكاً.
البعد الإقليمي: في هذا البعد يكون الفرد في حالة بحث عن المثل العليا بعد ان تحطمت شخصيته وتشوهت صورته في الواقع الذي يعيش. فينطلق الى عالم الخيال على أساس روحي أخلاقي عوضا عن الأساس الواقعي، ويزداد الصراع حدّة بينه وبين محيطه كلما زاد وعيه لذاته، بحيث يصل الى مرحلة يشعر فيها ان كلّ ما يحيط به يشكّل ثقلاً عليه، فيعزل نفسه ثمّ يلي ذلك انقطاع وفراق تام عن أي تواصل اجتماعي، ويعيش اغترابا عن كافة القيم الواقعية التي تحيط به وتحكمه.
البعد الميتافيزيقي: وينتج هذا البعد عندما يدير الفرد ظهره للواقع المحيط به، ليلج الى عالم الماورائيات، محاولاً معرفة وادراك الحقيقة الفعلية لسبب وجوده كإنسان وموقف الكون منه. لان بنظره كل المعطيات الحسية غير كافية لتؤكد هذا الوجود والسبب من وجوده. فيبقى بحالة شك دائمة تغرّبه بشكل كامل عن كل محيطه ووجوده ويظلُّ يسأل باستمرار: هل وجوده وجود فعلي ام وجود محتمل؟
وهكذا فإن الاغتراب هو انسلاخ الفرد عن واقعه ومحيطه، والعيش في عالم المثل والخيال، رغم انه ما زال بين الاهل وفي ارض الوطن. لكن انطواءه هذا وابتعاده عن المجتمع وكل ما فيه، يُبعد الناس عنه ويجعله يعيش في حالة اغتراب يرافقها شعور بالوحدة والغضب من كل ما هو واقع ومعاش، مما يخلق عنده جرحا يشتد الما وعمقا مع الزمن، ويرسّخ وحدته وعدم ثقته بالآخرين.
أمّا الغربة:
فهي عندما يغادر الانسان وطنه الى بلد آخر، ويفارق الاهل، وينقطع عن الاجواء المعتادة لحياته وسلوكياته اليومية.
وغالبا ما تولّد الغربة مشاعر الحزن والشوق الى الاهل والوطن. كما تحاط بالكثير من المفاجآت المؤلمة والصدمات الموجعة التي تدفع الى الوحدة وملامسة العزلة.
رغم اختلاف أسباب ودوافع الغربة، بين الدراسة والعمل، او التفتيش عن الأماكن الأكثر امنا وحرية وانفتاح، فهي نوعين: غربة طوعية من اجل البحث عن فرصة افضل للدراسة، للعمل، او لحياة اكثر امنا وسعادة.
كما قد تكون جبرية بفعل الحروب، الظلم، عدم الأمان، او الفقر.
والغربة في كثير من الحالات هي حلّ مثالي لما يواجه الانسان من مشاكل، وما يقف امام طموحاته من عوائق وصعوبات. فإنها الباب الأمثل للتعلم والاختصاص في المجالات المتقدمة والمتطورة من العلوم، كما وتوفر البيئة المناسبة للإبداع والتميّز.
وبالإضافة للتعلم فإنها توفر فرص ومجالات عمل تمكن الفرد من تحسين وضعه الاقتصادي وتوفير مستوى معيشي لائق لأفراد عائلته. كما وتمكنه من تطوير أفكاره وخلق مشاريع ومجالات إنتاجية مبتكرة.
ومن كان يعاني الظلم وعدم الأمان في وطنه يمكن للغربة وخاصة الى الدول التي تؤمن بالحرية والمساواة، وبحق الانسان بالعيش في امان واستقرار، والتمتع بجميع الحقوق التي تقرها الدساتير المحلية والقوانين الدولية، يمكن لها ان توفر لهذا الشخص الحياة الامنة الكريمة، وتمكنه من التمتع بالحرية والمساواة.
ومع ذلك، ومهما كانت الأسباب التي تدفع الى الغربة، فان الشعور السلبي الذي تولده هو واحد، سواء تولدت هذه المشاعر عن الغضب والرفض والهروب من الوطن، او تولدت عن الحلم والرغبة والطموح لتحقيق الأفضل.
ومجرد الابتعاد عن الاهل والوطن تتغير بعيني المغترب دلالات الألوان وانعكاساتها، كما تتغير على مسمعه معاني الكلمات والاسماء. وحتى عبير الازهار وشذى الشجر، لا يتلقاها بنفس الشغف ولا تعكس عنده نفس الاحاسيس. واكثر من ذلك فعلى المغترب ان يقوم بعملية تأقلم اجتماعي جديد، كما عليه فهم القوانين والعادات الجديدة حتى يبقى في مأمن من الوقوع في الخطأ.
ولأنه الغربة تعني بان الانسان غريب عن المجتمع الذي يوجد فيه، فهذا ما يلزمه بمراعاة قواعد الآداب العامة طبقا للمثل القائل بان الغريب يجب ان يكون أديب. ولأنه يجهل خفايا هذا المجتمع واسراره المحلية فهو محكوم بالحذر والحيطة الدائمة، كما ان علاقته بالأرض والمسكن الذي يقيم به هي علاقة مترددة بسبب شعوره الدائم بعدم الثبات والاستقرار في مكان واحد، مما يولد عنده الشعور بان ما يملكه هو وهمي وغير دائم لأنه لا يشعر بالانتماء الى تلك الأرض، كما وان ذاكرته لا تحمل أي ذكرى او حدث يشدها الى هذا البلد الجديد الذي يسكنه.
ومن حيث القانون، فان الغرباء هم فئات ضعيفة في المجتمع، خاصة في البلدان التي لا تعطي الجنسية لغير أبنائها، وهذا الواقع يجعل من الغرباء فئة ثانية، وبالتالي هم اقل حقوقا من الأبناء الأصليين، وهذا الشعور يخلق عندهم نوعا من الألم النفسي بسبب المراعاة الدائمة لأبناء البلد حيث يقومون.
وفي بعض البلدان يخضع الغرباء الى معاملة عنصرية سواء كانوا طلابا او عمالا او مهاجرين بسبب أوضاع دولهم الأمنية او السياسية، وقد يتعرضون للاضطهاد والمعاملة السيئة...
كل هذه الأسباب وغيرها تنعكس سلبا على نفسية المغترب بحيث ان معظم المغتربين يعانون من الوحدة الشديدة اثناء تواجدهم في بلد غريب، لانهم لا يملكون الكثير من الأصدقاء، وهم بعيدون عن أهلهم وعائلاتهم. هذه الوحدة تنعكس عليهم شعورا بالضعف والعزلة خصوصا عندما يشاهدون عائلات اخرى متقاربة تجتمع فيما بينها، تتبادل الزيارات وتتشارك المناسبات. وقد تصل الحالة النفسية ببعض المغتربين الى حالة من الاكتئاب الشديد الذي يفقدهم القدرة على العمل والاستمرار، وتدفعهم الى التخلي عن كل شيء والعودة الى الاهل الوطن.
اما في البلدان التي يكتسب فيها المغترب جنسية البلد الذي هاجر اليه، فان ما يتوفر له من الحرية والمساواة والحق في التملك والتعلم وكل الحقوق التي تقرها القوانين في تلك البلاد، تخفف عنه عبء الشوق وفقد الاهل وتمكنه من تحمّل الوحدة والحزن من اجل توفير فرص حياة افضل للأبناء. هذا في الحلات الطبيعية، لكن عند ظهور أي مشكلة امنية او سياسية او اقتصادية في ذلك البلد فهو معرّض للتمييز العنصري والاضطهاد.
لذلك فإن الدول التي تحترم شعوبها تعمل جاهدة لان توفر لهم الامن والأمان، وفرص العيش الكريم على ارض الوطن، فتحقق لهم الحرية والمساواة، وتمكنهم من تحقيق ذواتهم، كما وتنمي عندهم الشعور بالفخر لانهم أبناء هذا الوطن، وان فكروا بالغربة فمن اجل التعلم، او تشغيل أموالهم ومضاعفتها، او التنزه والتعرف على الثقافات والحضارات الإنسانية المختلفة. وهذه الغربة تكون مؤقتة وعودتهم الى ديارهم سريعة، لآن ما يجدونه في وطنهم لا توفره لهم غيرها من الأوطان. فالضمانات الاجتماعية المختلفة وخاصة الطبابة والشيخوخة متوفرة، وفرص التعلم والعمل موجودة، والامن والحرية والمساواة تسود البلاد. وبذلك تصبح الغربة نوعية ومحدودة، تعلّم المغترب الاعتماد على النفس وتحمّل المسؤولية، كما تغني معارفه وثقافته بسبب تفاعل الثقافات وتبادل المعارف، مما يوفر عليه الم الغربة، والشوق، والحزن، والوحدة ،والحسرة، بسبب ما يملكه من شعور بالتفوق والقوة التي اكتسبها من محبته وانتمائه للوطن.
المراجع
- ديوان الغربة – نورا عايد- مدينة الكتب للنشر والتوزيع pdf
- كتاب غربة عرب – يوسف زيدان- pdf
- الغربة والتغرب – محمد أمطوش- مؤسسة الرحاب الحديثة- بيروت لبنان
- مقال الغربة والاغتراب – الدستور/ الرئيسية – قضايا واراء