العصر الذهبي للعمارة في سوريا في الحقبة البيزنطية/ د. خولا الخوري

               د. خولا الخوري - رئيسة الجمعية اللبنانية لحماية الآثار والتراث

ALCAP

14 - 8- 2021

من المعروف أن في فلسطين ، مهد الديانات السماوية، توجد أقدم الكنائس المسيحية والتي مازالت مقصد المؤمنين الى يومنا هذا وهي ذات هندسة مميزة تعكس فن العمارة المسيحية المنبثق من العمارة الرومانية. لكن العصر الذهبي للعمارة الدينية المسيحية كان في سوريا وتحديداً في شمالها في ما بات يُعرف اليوم ب "المدن الميتة" نظراً لأنها مهجورة منذ حوالى الألف وثلاثمئة عام. تقع هذه المدن في شمال سوريا وتتبع إداريا لمحافظتي حلب وإدلب وقد شكلت الحكومة السورية ثمانية حدائق أثرية في هذه المدن أدى الى إدراجها ضمن لائحة التراث العالمي في العام 2011. تعتبر هذه القرى، على رغم التدمير الهائل الذي لحق بها، والتي تضم 700 موقع أثري، من القرى القليلة التي حافظت على كل مقوماتها العمرانية من بيوت وكنائس ومقابر وآبار ولا زالت ظاهرة للعيان بشكل واضح حتى يومنا هذا وهنا تكمن أهميتها الأثرية والتاريخية فهي تحافظ على هويتها الأصلية. 

يمتد تاريخ هذه المدن بين القرنين الرابع والسابع ميلادي. في القرن الثالث ميلادي بدأ التراجع التدريجي  للامبراطورية الرومانية في اوروبا بسبب تدهور الأمن على حدودها، وهجمات البربريين، بالإضافة الى الفوضى السياسية الداخلية وكلها عوامل هزت السلام الروماني وقوّضت إقتصاده.  بالمقابل كانت الامبراطورية  البيزنطية في الشرق في تطور متلاحق، فشهد هذا الشرق ازدهاراً اقتصادياً انعكس تقدماً في العمارة بشكل عام والعمارة الدينية بشكل خاص. 

فبعد قانون العفو المعروف بقانون ميلانو في العام 313 والذي قضى بموجبه الامبراطور قسطنطين الأول وليسيانوس بكفّ الاضطهاد بحق المسيحيين والسماح لهم بإنشاء دورعبادة وممارسة شعائرهم الدينية بشكل رسمي، انتشرت المسيحية بشكل كبير في فلسطين ولبنان وسوريا وباتت هذه الفترة تعرف بالفترة الذهبية للمسيحية وهذا ما نراه بوضوح في بقايا العمارة في هذه البلدان. في سوريا وفي البداية كانت هذه الكنائس عبارة عن غرف صغيرة داخل المنازل مخصصة للعبادة والعماد،  ومدينة "دورا – اوروبس" او الصالحية (دير الزور) هي خير مثال عن هذه البيوت – الكنائس: منزل مبني حسب النمط الروماني اي بهو وسطي وحوله الغرف أما في احد أطرافه فيوجد المعبد (لم تكن تستخدم بعد كلمة كنيسة)، وهذا المعبد مؤلف من غرفتين هما الاكثر ارتفاعا في البيت، كما توجد غرفة أخرى مميزة تستعمل للعماد وجميع جدران المنزل مكسوة بالتصاوير الجدرانية. 

ابتدأ بناء الكنائس بالمعني الحقيقي للكلمة في نهاية القرن الرابع تحديدا في العام  374. في القرن الخامس وانعكاساً للإزدهار الأقتصادي، شهدت سوريا بداية الهندسة المترفة وتوزعت بين الحمّامات والفيلات والمعابد والمدافن. في هذه الفترة أصبحت الكنائس عبارة عن "مجمّع" يضم عدة غرف حول الكنيسة وهي غير متصلة ببعضها البعض مع الابقاء على الباحة ولكن خارجية وعادة ما تسبق الكنيسة من ناحية المداخل الغربي، او الى جانب الكنيسة. لنصل بعدها الى العصر الذهبي للعمارة السورية في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس حيث انتشرت عمارة الكاتدرائيات، وانتشرت العمارة الدينية بشكل اوسع. في هذه الحقبة انتشرت الكنائس ضمن مجتمع زراعي (حقول عنب ومزارع حيوانات)، معاصر حجرية ضخمة ومقابر محفورة بالصخر ومزينة بنقوش رومانية ومسيحية. 

كما ازداد عدد الحجاج وازدادت معها النذور المادية التي كان يؤديها الحجاج والمتبرعون. تبدلت الكنائس ذات الطابع الجاف بكنائس متوهجة، كثيرة النوافذ، وزادت الأبهة في التصميم والتزيين وازدادت الزخرفة فيها بشكل ملحوظ.  اما الكنائس المعروفة بالكاتدرائيات فهي ذات مساحات كبيرة، ضخمة الطابع، مداخلها كبيرة ومنمّقة الزخارف، مبنية من الحجارة المشغولة، الكبيرة والمتوسطة الحجم يجمع فيما بينها الملاط. في الداخل تقسم هذه الكنائس الى ثلاثة صحون يفصل في ما بينها الأعمدة الضخمة في معظم الأحيان أو الركائز الحرة في أحيان نادرة، وتنتهي الى الشرق بحنية ذات زخرفة مميزة حيت تضم المذبح، وعرف هذا النمط في البناء بالعمارة البازيليكية نسبة الى البازيليك الرومانية التي أخذت منها هذه التقنية. 

في الكثير من هذه الكنائس نجد تقنية "البيما" وهي تقنية فريدة خاصة بكنائس سوريا البيزنطية  وهي عبارة عن منصة داخل الصحن الوسطي تضم مذبحاً ثانوياً مواجهاً للمذبح الرئيسي وتقام فيها التراتيل والقراءات المقدسة. مثال على هذه العمارة نذكر كاتدرائية "رصافة" التي تتألف من رواق خارجي، يضم نافورة كبيرة مزخرفة، يؤدي الى الكنيسة ذات البيما وتتصل بهذه الكاتدرائية، لناحية الشمال - الشرقي كنيسة صغيرة معدّة للعماد، أما في الجنوب الشرقي فنجد كنيسة أخرى غالباً ما تكون لتكريم أحد القديسين. بالإضافة الى البازيليك انتشرت أنماط هندسية أخرى عكست أيضاً رقي الهندسة السورية في تلك الفترة، نذكر منها النمط المثمّن اذ يكون شكل الكنيسة مثمن الأضلاع داخل بناء مربع، و نأخذ مثالاً على ذلك كنيسة مار جرجس في "ازرع". النمط المصالب وهو عبارة عن كنيسة على شكل صليب متساوي الأضلاع وداخل بناء مربع أيضا، مثل كنيسة "سيرجيوبولس" في رصافة. 

اهتم الكثير من علماء الاثار الأجانب بهذه المواقع وأقاموا حفريات أثرية منذ منتصف القرن التاسع عشر مثلStrzygowski  J. و J.Lassu  و G. Tchalenko  و Ch. De Vogué  وغيرهم. من أبرز هذه المواقع المدروسة نذكر دار قيتا، و البارة، ورويحة، و سرجيلا، و بعودا، و بشلله، و قلب لوزة، و براد وغيرها من المواقع التي تتوزع على عدة جبال نذكر منها جبل سمعان وجبل حلقة وجبل باريشا وجبل الوسطاني وغيرها. 

أما هجرة هذه الكنائس فتعود، بحسب الباحثين الغربيين، لعدة أسباب، فالبعض اعتبر أن دخول الإسلام الى شمال سوريا كان سبباً، فيما رجّح آخرون ان يكون تبدّل المناخ الذي أثّر على الانتاج الزراعي وتحوّل خريطة الطرق التجارية فانتقل السكان الى اماكن اكثر امناً وخصوبة سبباً آخر. ومهما كانت الأسباب تبقى هذه المدن، برغم الدمار دليلاً على نبوغ الهندسة السورية في ذاك الزمان، وتشكّل وجهة أساسية للأثريين المهتمين بتاريخ العمارة الرومانية – المسيحية، وقد أدرجت في لائحة التراث العالمي المهدد بالدمارفي العام 2013 مع اشتداد الحرب في سوريا،  وهي فعلاً تحت الخطر ويجب العمل على حمايتها وتحييدها عن النزاعات.