الطاولة الخضراء

سناء شجاع - 6-4-2021

قديمًا، حين كنّا _ نحن الأولادَ الثّلاثةَ _  دون العاشرةِ سِنًّا، كان في منزلِنا طاولةً صغيرةً مستديرةً بحجمِ عشائِنا،وغدائِنا، ولقمةِ خبزِنا والتفافِنا، تفترشُها أمِّي عندَ كلِّ وجبةٍ، لنتناولَ من طيبِ يديْها أطيبَ وجبةٍ. لازلتُ أذكرُ هذه الطّاولةَ الخضراءَ. كانت هديّةَ عمّتي لِوالديّ يوم انتقلا إلى المنزلِ  الجديد. لا أعلمُ كيف كانَ لهذهِ الطّاولةِ الصّغيرةِ ان تحويَ خمسةَ صحونٍ، وخمسةَ فناجينَ، وخمسةَ أرغفةٍ، لكنّها كانَت تكفِي، وتتَّسعُ إلى ان كبرْنا وكبرَت هي، بدورِها، وهرمَت بعد مضِيِّ عقدَينِ ونصفِ العَقدِ.

ولَكم كانَ يُخَيّلُ إليَّ أنّها كانت تنادينا بلهفة ..بحماسة.. بطاعة.. برغبة للوقوف استدارةً حولَها، وتأمّلِ ذراعَي أُمِّي، وهي تحضِّرُ لنا " الكاتو " . ها هيَ الخفَّاقةُ تدورُ وتدورُ .ها هما الفراشان المعدنيّانِ يبدآنِ رحلتَهما في مزجِ الصّفارِ معَ البياضِ ، فالزُّبدةِ والسُّكَّرِ كوبًا كوبًا، خفقًا خفقًا ، حتّى يتماسكَ العجينُ، بعدَ إضافةِ الطَّحينِ الأبيضِ . ولكي لا تُخفِقُ أُمّي في العددِ ،رحْنا _نحنُ اولادُها الثّلاثةَ _ نشاركُها العدَّ: كبّاية، كبّاية ونص ، ربع ملعقة " فانيليا "...إلى أنْ يجهزَ الصُّنفُ لِسكبِهِ في صِينيّةِ مُغطَّاةٍ ببعضِ الزُّبدةِ والطّحين، مُحَدّقينَ متأمّلينَ بأعْيُنِ الانتظارِ و الفرحِ سكبَ العجينِ الأصفرَ الشَّهيِّ تهيئةً لدخولِ الفرنِ الحّارِّ . كنُّا بشوقٍ ننتظرُ انقضاءَ وقتِ النّضوجِ لخبزٍ. ورأفةً بشوقِ الدَّقائق ، رحْنا نتذوّقُ العجينَ الشَّهيَّ المتناثرَ على جنباتِ وعاءِ الخفقِ وآلتِهِ بأصابعَ عابثةٍ فرحةٍ رشيقةٍ طفوليّةٍ ، حيثُ الفرحُ معَ كلِّ ملعقةٍ، واِنْ حَوَتِ القليلَ من ذاك الخليطِ السّاحرِ.

  هذهِ الطّاولةُ رمزٌ جميلٌ. ما تزالُ ذِكراها في قلوبِنا عِبرةً ،و تذكارَ محبّةٍ، وصفاءَ عيشٍ. رحبةٌ هيَ رغمَ صغرِها .جامعةٌ باستدارتِها. سخيّةٌ كغطائِها الأخضرَ.




كبرْنا. هرمَت الطّاولةُ. وبعدَ انقضاءِ ما يكفي من الأعوامِ، عملْتُ على مماثلَتِها جمعًا، لأفشلَ فعلًا ، ولَربَّما خَيْبةً؛ مُستدركةً قيمةَ ما كانَت تعتمدُهُ جدّتِي حينَ كانَت تضعُ " الطَّبقَ" على " الطَّبَليَّة " الخشبيَّةِ المربّعَةِ ذات القوائِم القصيرةِ، وتتنادَى الأسرةُ بأفرادِها السَّبعةِ ،من دونِ تأفُّفٍ، أَو ضيقٍ، بادئينَ تناولَ النِّعمةِ بالبسملةِ والحمدلةِ ، شاكرينَ الله على ما وهبَنا إيّاه من محبة وحِكمة .