الرابط..

إيمان أبو شاهين يوسف

 غابةٌ خضراء آمنة تمتد فوق مساحةٍ واسعة من الأرض، يتخللها أشكالٌ من التضاريس المتنوعة، وتكسوها أشجارٌ متعدّدة الأجناس والأثمار، يحيط بها نهرٌ عريض غزير المياه متنوع الكائنات الحيّة. 

هذه الغابة الغنية بثمارها وخيراتها، والمتميّزة بعذوبة مياهها، كانت هدفاً لجماعةٍ كثيرة العدد من القرود، التي جاءت إليها وسكنتها وتغلغلت في أوكارها واعتلت أغصان أشجارها، فرحةً مطمئنة لراحة العيش ومصدر الرزق, لهذا راحت تتكاثر بصورة هائلة باتت الغابة غير قادرة على استيعابها، وصارت تشكّل خطراً بيئياً على توازن الحياة في هذا المكان. 

قرّرت الحكومة مواجهة هذا الخطر الذي أصاب هذه الغابة، وصمّمت على إحضار عددٍ كبيرٍ من الحيوانات المفترسة للتخفيف من عدد القرود.

 سمعت القرود بهذا الخبر، فصارت ترتعد من شدّة الخوف والقلق على حياتها ومصيرها، وأخذت تفكّر بطريقة لخلاصها. 

بعد طول تفكير قرّرت مغادرة هذه الغابة، والانتشار في مساحات أوسع يختفي فيها كثرة عددها، ولكن هناك عقبةٌ كبيرةٌ أمامها!!! الغابة محاطةٌ بنهر عريض وغزير. والربيع قد أقبل والخوف كبيرٌ من فيضان مياه هذا النهر. فما العمل؟ وجد القرود أن ليس أمامهم سوى الإسراع في المغادرة عبر النهر قبل أن تحمل مياهه ويرتفع منسوبه لأن لا حيلة لهم للهروب من الوحوش المفترسة إلا ّعبر هذا الطريق.

 اعتلى زعيم القرود صخرةً عالية وأطلق نفير الخطر، وصار ينادي بأعلى الصوت أبناء القرود، للفرار سريعاً من هذه الغابة وعبر هذا النهر قبل وقوع الكارثة.

 لبّى الجميع النداء وقفزوا إلى المياه، فغطى عددهم وجه مياه النهر، وراحوا يسابقون الريح وهم يصارعون المياه الهائجة متدافعين للنجاة بأنفسهم.. الكلُّ صار في عرض النهر والمياه بدأت ترتفع وتنذر بفيضانٍ هائل، فراح كبار القردة ينشدون أناشيد العزم والحماس ليحثّوا باقي القردة على السرعة في السباحة، فأخذ الجميع يكدّون كدّاً ليسبقوا السيل باستثناء قردٍ واحد من صغار القردة. 

 القرد الصغير هذا، اعتقد أن هذه الأجواء الحماسية هي عرض احتفالي لا يعوّض، فقفز من بين يدي أمه وأخذ يرقص ويلهو فرحاً، وصار يسبح ذات اليمين وذات اليسار مطلقاً زغاريد البهجة والسرور. 

الأم خافت عليه كثيراً، وراحت تسعى وراءه محاولة التقاطه، وهو يزيد في الحركة والابتعاد ملاعباً والدته في هذا الجو القلق، وكلّما اقتربت منه يقفز إلى مسافة أبعد.

  الجميع مستمر في جهاده للوصول إلى برّ الأمان، ولا يمكن أن يضحّوا بأنفسهم من أجل هذا الولد المعتوه بالنسبة إليهم، فراحوا ينادون الأم طالبين إليها الخلاص بنفسها وعدم التعرض للخطر من أجل هذا القرد اللعين قائلين لها: اتركيه وشأنه فحياتك أبقى منه.. انظري إلى الخلف. المياه تستمرّ في الارتفاع وبدأنا نسمع صوت هديرها.. الطوفان آتٍ، أسرعي للخلاص بنفسك ولا تدعيه أن يكون سبباً لموتك. 

الأم لم تصغ لنداء جماعة القرود وأكملت سعيها خلف ولدها رغم ازدياد سرعة المياه وارتفاع منسوبها.. ظلّت تلهث وراء هذا الصغير وهي تناديه وتحاول إقناعه بصعوبة الموقف لكنه لا يستوعب.

الأم لم تعد تقوى على التنفس وبدأت حركة جسدها تنشلّ، والقرود أكملوا سيرهم ووصلوا إلى برّ الأمان. أما هي وولدها فما زالا عالقين في دائرة الخطر والقرد الصغير مستمرّ في غيّه، إلى أن بدأ يسمع صوت هدير المياه القوي ويحسّ بسرعة اندفاعها، فخاف وراح يصرخ مستنجداً بأمّه التي خارت قواها إثر ملاحقتها له حتى كادت أن تغرق. لكن صوت الاستغاثة الذي سمعته الأم من ابنها الخائف جعلها تجمع كل ما فيها من قوّة، وتندفع إليه حيث كان يسبح باتجاهها مسرعاً فاحتضنته وبلمح البصر وصلت به إلى الضفّة الآمنة.

تجمّع القرود كلّهم حول هذه الأم المنهكة القوّة، وراحوا ينظرون إليها بدهشة وتعجّب، متوجهين إليها بوابل من الأسئلة: ألم تسمعي نداءنا؟لماذا تابعت اللّحاق به؟إنه أرعن وغير مسؤول ويستحق الموت فكيف تضحي بنفسك من أجله؟ لو لم يعد هذا القرد الأرعن إليك هل كنت ستموتين غرقاً من أجله؟نحن نتبرأ من هذا اللّعين المتهور، الذي جازف بحياته وحياتك، ولن نقبل به بعد اليوم في جماعتنا، ولكن قبل أن نخيّرك مع من ستكونين، سنسألك ما الذي جعلك تخاطرين بنفسك لإنقاذ حياته؟؟؟

وقفت الأم دقائق دون أن تنبس ببنت شفة، ثمّ رفعت عينيها ونظرت بالقرود نظرة رحمةٍ وقالت: إني أشفق عليكم وأعذركم على هذا الحكم غير العادل، المبني على أسباب غير موجودة، وهي من صنع هواجسكم ورغباتكم، والذي دعيتموه باللّعين المتهوّر، هو طفل غير مميز ولا يعرف شيئاً عن غدر الزمان، وما فعله ليس إلاّ تعبيراً عن حبه للحياة والرغبة في العيش صادقاً مع مشاعره. أمّا أنتم فكانت الأنانية وحبّ الذات هي الغالبة على تصرفاتكم ولو أنكم أطلقتم بعض النداءات لي فقط من باب رفع العتب. أما السبب الذي دفعني للحاق به والمغامرة بحياتي من أجله فهو: رابط الأمومة أولاً، وصوت ضميره الذي كان يخاطبني ببراءة وصدق، ليدعوني إلى مشاركته فرح الحياة.

توقفت الأم عن الكلام بسبب مقاطعتها بسؤال من أحد القردة الذي قال: رابط الأمومة وماذا يعني ذلك؟؟؟أجابت الأم: هو خيط روحي منسوج من نور المحبة ونسغ الحياة يمتد من قلب الأم إلى قلب طفلها ليجعلهما كائناً واحداً.

قال السائل: هل إذا ربطنا جميع أبناء القردة بهذا الخيط يصبحون واحداً يضحّي أحدهما بنفسه من أجل الآخر؟قالت الأم: قد يصلح ذلك فيما إذا أصبحت كل القلوب، قلوب أمهات وأطفال.

تفرقت القردة وراح كلّ منها باتجاه وهم يردّدون ما قالته الأم بصوت عالٍ: قد يصلح ذلك فيما إذا أصبحت كلّ القلوب، قلوب أمهات وأطفال.......