البعثات العلمية المشتركة بين الأندلس وأوروبا - الجزء الثاني

 الشيخ مكرم المصري 3- 1 - 2022                                                      

استشهادات حضارية متفرقة استكمالاً للجزء الأول

 الإزدهار يتطلب حرية في التجاذب والتفاعل الفكريين، والفكر المسيحي يكاد ينحصر في الأديرة وفي أقلام الرهبان والقسس، حيث كان العالم المسيحي خاضعاً لسلطة الكنيسة التي كانت الأخرى بدورها ترفض كل جديد.  

 كان العطاء الفكري والحضاري مشتركاً متبادلاً في الأندلس، وكان العرب يحملون عناصر قوية خيرة لحضارة تتطلب التكامل وتنشد التعاون على انمائها وانتشارها، وقد وجدت التربة الصالحة للغرس والمياه العذبة والأجواء المناسبة في أرض اسبانيا. 

  يقول المؤرخ الإنكليزي جورج ملو في كتابه "فلسفة التاريخ" إن مدارس العرب في اسبانيا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوروبيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة. 

 يقول المؤرخ الفرنسي فاليير في كتابه "استرداد الأندلس" إن البعثات العلمية كانت في أوروبا على قدم وساق لإرسالها إلى الأندلس الإسلامية لتلقف العلوم والفنون والصناعات في معاهدها الكبرى، وذلك بنتيجة الدعايات التي انتشرت في قصور ومراكز معظم المقاطعات الأوروبية.

 وممن درس في قرطبة وتخرج على أيدي علمائها شانجة Sancho ملك ليون واستويا، وهو دليل أكيد على الإعجاب والتفاعل الحضاري والتعايش العلمي بين الإضاءة الزيتية في الأزقة العامة بقرطبة في الوقت الذي كان يعم الظلام عواصم أوروبا، ويؤكد المراكشي ذلك بقوله: "وسمعت بلاد الأندلس من غير واحد من مشايخها أن الماشي كان يستضيء بسروج قرطبة ثلاثة، فراسخ لا ينقطع عنه الضوء.   

وينقل لنا ابن صاعد الأندلسي (462هـ - 1070م) صورة مغايرة للأندلس وعن أوضاع سكان إسبانيا وأوروبا وأحوالهم من الجلالقة بقوله: "أشبه بالبهائم منهم بالناس لأن من كان منهم موغلاً في بلاد الشمال مضمرّت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم فعدموا بهذا دقة الأفهام، وثقوب الخواطر وغلب عليهم الجهل والبلادة وفشى فيهم العمى والغباوة.

كما صور لنا الجغرافي البكري القرطبي الصقالبة وحياتهم وأوضاعهم المختلفة نقلاً الطرطوشي بقوله: "أهل غدر ودناوة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام الا مرة أو مرتين بالماء البارد ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوها من عرقهم تنعم به أجسامهم وتصح أبدانهم، وثيابهم أضيق الثياب وهي مفرجة تبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم. 

 وتحدث المستشرق الإسباني ليفي بروفنسال عن الاشعاع الجضاري الأندلسي على إسبانيا والعالم بقوله: "لم يصل إشعاع الثقافة الأندلسية على الأرض المسيحية أقص مدى اندفاعه في القرن العاشر ميلادي لكي يأخذ بالتلاشي بعد ذلك فقد امتد على العكس حتى القرن الخامس عشر ميلادي باسطاً خيوطه على جميع أجزاء شبه الجزيرة، ولم يفعل ملوك أراكون ليردوه عن بلادهم الخاصة، بل شجعوا هذا الإشعاع أيضاً وذلك بأن تبنوا أنفسهم في احتفلاتهم ببلاطاتهم شتى المبتكرات المستقاة من الحضارة المجاورة مباشرة، وان قيام بعض عواهل الإسبان بضرب عملات ذات وجهين عربي وقشتال هو أمر كثير الوقوع.   

ويؤكد ليفي بروفنسال آثار العرب الثقافية في إسبانيا بقوله: "إن أعمق أثر كما يبدو تركه سكان شبه الجزيرة الأصليون في العصور الوسطى في الأندلس من جهتي حدودها الإسلامية هو ذلك الأثر الذي خلفوه في لهجاتها الدراجة.         

دخلت المصطلحات الأندلسية في اللغة الأسبانية في الجانب الحربي والإداري والإقتصادي ولا تزال أسماء وقرى ومدن وشوارع وساحات وقلاع أمثلة وعادات وتقاليد عربية حية في المجتمع الإسباني وهو دليل الإعتزاز والتعايش والإعجاب بحضارة العرب ومجدهم في اسبانيا. 


الفنون والآثار

        كان فن الزخرفة الإسلامي من الواردات ذات القيمة العالية إلى أوروبا طوال العصور الوسطى. في الفترة الأولى، كانت المنسوجات ذات أهمية خاصة، وتستخدم لأثواب الكنيسة والأغطية الواقية والستائر وملابس النخبة. كما كان الفخار الإسلامي عالي الجودة يلقى رواجًا بين الأوروبيين، نظرًا لزخارفه ومشاهد الصيد الصغيرة المنقوشة عليه وما شابه ذلك. ولأنها لم تكن مفهومة النقوش حينئذ، فلم تكن تلك الأشياء تسيء إلى مشاعر المسيحيين. وكان فن العصورالوسطى في صقلية مثار اهتمام، نظرًا لنمطه الذي يخلط بين الثقافات النورمانية والعربية والبيزنطية في مجالات كالفسيفساء والتطعيمات المعدنية والنحت والأعمال البرونزية .


الكتابة: محاكاة الغرب للخطوط العربية      

 اعتاد الغرب في العصور الوسطى وعصر النهضة محاكاة الزخارف بالخط الكوفي العربي لإنتاج ما عرف باسم شبيه الكوفي: "كان يوصف الفن الأوروبي الذي يقلد نظيره العربي بشبيه الكوفي. نقل هذا الفن عن الخط العربي خطوطه المستقيمة والمائلة، والتي كانت شائعة الاستخدام في الزخارف المعمارية الإسلامية".انتشر هذا الفن الأوروبي في الفترة من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر، بل وكان ينسخ عادة على حالته دون فهم ما يعنيه النص، لزخرفة المنسوجات أو الإطارات أو الهالات الدينية. ويظهر استخدام هذا النمط من الزخارف بجلاء في رسوم جوتو دي بوندوني. السبب الحقيقي وراء استخدام زخارف النمط شبيه الكوفي في لوحات عصر النهضة غير معروف. لكن يبدو أن الغربيين نقلوا زخارف القرنين الثالث عشر والرابع عشر عن طريق الخطأ ظنًا منهم أنها الزخارف التي كانت شائعة في زمن المسيح: "في فن عصر النهضة، استخدم نمط الزخارف شبيهة الكوفية لتزيين ملابس أبطال العهد القديم كديفيد". هناك سبب آخر محتمل، وهو أن الفنان كان يأمل في التعبير عن عالمية ثقافة الإيمان المسيحي، عن طريق مزج عدد امن اللغات المكتوبة، في الوقت الذي كان فيه للكنيسة طموحات دولية قوية.