البعثات العلمية المشتركة بين الأندلس وأوروبا - الجزء الثالث

 الشيخ مكرم المصري - 7 - 1 - 2022  

 كما ذكرنا في الجزئين الأولين عن البعثات العلمية المشتركة بين الأندلس وأوروبا نستكمل الجزء الثالث والأخير بالحديث عن الفلسفة والطب على أن نكمل دراستنا عن الفنون العربية في الأندلس بأبحاث لاحقة.

الفلسفة

        أسس ابن سينا مدرسة في الفلسفة، أثرت في العالمين الإسلامي والمسيحي على حدٍ سواء. كان ابن سينا من المعلقين المهمين على أعمال أرسطو، معدلاً فيها في بعض الجوانب بأفكاره الخاصة، وبالأخص في المنطق. ترجع أهمية مدرسة ابن سينا الفلسفية في تفسيرها لمعتقدات ابن سينا في مسائل مثل طبيعة الروح والاختلاف بين الوجود والجوهر، إضافة إلى مناظراته وانتقاداته لبعض أعمال أرسطو، لذا حظي بمعارضة من أتباع المدرسة الأوروبية. كان لابن رشد أيضًا مدرسة فلسفية، جعلته أحد أكثر الفلاسفة المسلمين تأثيرًا في الغرب. اختلف ابن رشد مع ابن سينا حول تعليقات ابن سينا على أعمال أرسطو في بعض الجوانب مثل وحدة الفكر، وظل تعليق ابن رشد حول تلك المسألة هو السائد في أوروبا خلال العصور الوسطى. وقد أتفق دانتي أليغييري مع الرؤية الرشدية لنظرية علمانية الدولة في كتابه DeMonarchia. كما وضع ابن رشد أيضًا مفهوم "الوجود يسبق الجوهر".   

  كان لأبي حامد الغزالي أيضًا تأثيره الهام في فلاسفة العصور الوسطى المسيحيين والمفكرين اليهود أمثال موسى بن ميمون. تقول الباحثة مارغريت سميث، "ليس هناك شك أن أعمال الغزالي كانت تجذب للغاية اهتمام هؤلاء العلماء الأوروبيين" و"أكثر هؤلاء الكتاب المسيحين الذين تأثروا بالغزالي، كان توما الأكويني (1225–1274)، الذي درس أعمال العلماء المسلمين ويدين بالفضل لهم، حيث درس في جامعة نابولي التي كان تأثير الأدب والثقافة الإسلاميين سائدًا فيها في ذلك الوقت. " 

الطب

 انبهر علماء الغرب ببراعة أطباء الأندلس وأعجبوا بمهاراتهم، ومنهم المستشرق الفرنسي غوستاف ليون، الذي أشاد بالطبيب الأندلسي الزهراوي بقوله (وأبو القاسم القرطبي المتوفي سنة 1107م)، هو من أشهر جراحي العرب، وقد تخيل الكثير من الآلات الجراحية فرسمها في كتابه، ووصف أبو القاسم عملية سحق الحصاة في المثانة وإخراجها على الخصوص، فعدت من اختراعات العصر الحاضر من غير حق، ولم يعرف أبو القاسم في أوروبا إلا في القرن الخامس عشر، فذاع صيته فيه، قال العالم الفيزيولوجي الكبير هاللر"كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر. 

  وقد تأثرت الحضارة الأوروبية بالنهضة العلمية للعرب والمسلمين في مجال الطب، وكان أول تأثير للطب العربي في أوروبا في أواسط القرن العاشر الميلادي في مدرسة سالرنو. ومن ثم كان انتقال الطب الى أوروبا في فترة مبكرة حيث أنشئت مدارس للطب في كل من نابولي، وموبيليه، وبولونيا وأكسفورد، وكمبريدج.        

  ان الأثر الذي تركته صقلية وعاصمتها بالرموز في نقل الثقافة العربية الإسلامية، أعمق من أثر سالرنو والحروب الصليبية، بعد أن بسط العرب المسلمون نور حضارتهم العتيدة عليها سنة827هـ - 1092م، وأنشأوا خلالها أول مدرسة للطب في أوروبا ومن خلالها أقيمت مدرسة خاصة للترجمة من العربية الى اللاتينية واليونانية على غرار مدرسة طليطلة لترجمة التراث الفكري والعلمي في أرضها، لأن الأندلس كانت مدينة العلم وأدب ينافس أهلها في طلب العلوم وتحصيل المعارف.        

ولعل من مظاهر النهضة العلمية في صقلية عامة وبالرموز خاصة تلك الآلاف من المخطوطات العربية الإسلامية والتي لا تزال محفوظة إلى الآن في مكتبة الفاتيكان في روما. 

الخاتمة

 ان العرب المسلمين هم أول من رفعوا لواء العلم طوال العصور الوسطى كلها، التي وصفت بعصور الظلام والتخلف، فهي إنما كانت ظلاماً على أوروبا وحدها لأن المسلمين جعلوا منها عصور اشعاع وتألق فلم تكن مدرسة تخلومن خزانة كتب مع ندرة المخطوطات في ذلك العهد، فكان العلماء يجتمعون في المساجد ويقرأون ويتباحثون ويتدارسون وكانت المعارف في المدن الأندلسية وقراها مبذولة لكل طالب، وحكامهم يتنافسون في إعلاء العلم والعلماء وسط اليد في الإنفاق على بيوت العلم ومساعدة الفقراء في طلبه.       

 ولم يكن للعرب المسلمين من الإنتهاء من عمليات الفتح الباهر لشبه الجزيرة الأيبيرية ، حتى قامو ببناء صرح دولتهم الفتية في الجزيرة الأندلسية، وفي أقل من قرن تمكنوا من البناء الشامخ لحواضر المدن الأندلسية ومتطلباتها اللازمة، حيث تفرغوا للعلم وانصرفوا الى العناية بالعلوم والآداب والفنون ، وقد فاقوا في ذلك ما وصل أخوانهم في المشرق من تقدم وهو ما أتاح مورداً عزباً ظلت تنهال منه منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي وحتى النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر ميلادي.