الاقتصاد في الدولة العباسية

 الاستاذ الشيخ مكرم المصري - 26 - 12 - 2021

إن النظام الاقتصادي في الدولة العباسية، هو كأي نظام قبل الثورة الصناعية فهو نظام إقطاعي وقوامه الزراعة. وقد كانت الأراضي الخصبة مقسمة إلى أربع قطاعات: أراضي الدولة التي تعود أرباحها مباشرة للخليفة أو السلطان أو كبار قادة الجيش، وأراضي الأوقاف التي كانت تشكل ممولاً أساسيًا للمساجد والمدارس الفقهية، وأراضي الإقطاعيات الخاصة حيث تكون مملوكة لمتنفذي المدن ووجهائها، مع وجود نوع رابع قليل الانتشار تمثّل في الملكية الخاصة للأفراد.

 الزراعة في الدولة العباسية 

كان الفلاحون يعملون كعبيد أو أقنان لدى ملاك الأراضي ويستقرون في قرى صغيرة تبنى بالقرب منها، ويقتاتون من حصتهم من غلال الأرض، وإذا ما احتاجوا شيئًا كانوا يشترونه من الباعة المتجولين أو أسواق المدن القريبة، فالحياة القروية كانت مستقرة ومزدهرة وكان يعيقها انعدام الأمن خصوصًا خلال عهود ضعف الدولة، إذ تعرضت الإقطاعيات للغزو والتخريب سواءً من دول مجاورة أو من قطاع الطرق. وقد حاولت الدولة خلال عهد القوة السيطرة على الوضع من خلال توجيهات موسى الهادي وهارون الرشيد، وخلال فترات انعدام الأمن أخذ سكان القرى بالنزوح نحو المدن ما أثر على الإستقرار الاقتصادي.

طرق الزراعة  كان للتسميد أهمية خاصة في الزراعة. فكانوا يضعون السماد قرب جذور الأشجار، وكانوا يستعملون الرماد وفضلات البشر والبعر للسماد. فيقول عبد العزيز الدوري في كتابه أن شجر النخيل كان يزرع بين شهر أيار وحزيران، وكان يتم تلقيح النخيل من قبل فلاحيين متخصصين، والأشجار المثمرة كانت تزرع إما من بذور أو أقلام. لم يكن للفلاحين وسيلة لمكافحة الجراد والأوبئة التي كانت تهدد مزارعهم وكان الفلاح يقف مكتوف الأيدي اتجاه الجراد حتى عام 409هـ/1018م، حين حاول الفلاحون ابعادهم عن المزروعات بالطبول والأبواق. 

وسائل الريّ اهتمت الحكومة بالإشراف على توزيع المياه، فأنشأت السدود والقنوات وخزانات المياه، وتولى هذه المهمة ديوان الخراج الذي يعين بدوره المهندسيين لهذا الغرض. كانت المزروعات تروى بواسطة الآلآت الرافعة. وأكثر الآلآت شيوعًا كانت النواعيرالمدولبة الذي يديرهم تيار النهر. اما الدولاب البدائي كان أقل فعلية. إن دولاب العجلة قسم على قسمين قسم يديره حصان أوجمل والثاني يديره ثوران، أما الدالية فكانت آلة الريّ يديرها ستة رجال، أحيانًا أكثر وأحيانًا أقل حسب مساحة الأرض المروية. كانت النواعير تستخدم في منطقة نهروان غرب بغداد، أما الدواليب استعملت في غرب بغداد لري الحدائق. كانت أغلب أنواع الري تكون سيحًا، أما مع عضدد الدولة بدأ يشق القنوات لتطال أغلب أراضي الدولة. وفي منطقة البطيخة كان الماء ضحلاً مناسباً لزراعة الرز. كانت منطقة البصرة لها نظام خاص في ري المزروعات عبر شبكة قنوات تأخذ مياهها نتيجة دفع المياه التي تدخل مرتين كل أربع وعشرين ساعة. 

 الحاصلات الزراعية  كانت الحنطة والشعير والتمر والأرز، أهم الحاصلات الزراعية في البلاد، وهناك حاصلات الزراعية في البلاد وهناك حاصلات أخرى، من الحبوب والفواكه ولكن أهميتها ثانوية بين المنتوجات الأخرى. توجد أنواع مختلفة من الحبوب في العراق وقسمت الى مجموعات، الأولى السمسم والكمون والشونيز والخردل والكراوية وبذر الرطبة. أما الثانية فكانت الحنطة وفيها الحمص واللوبيا والعدس وبذر الكتان والحلبة والقرطم وحبة الخضرا والزبيب والسماق واللوز بقشره والبندق. أما المجموعة الثالثة فأولها الشعير، ويأتي الأرز بقشره والجاورس والذرة والهرطمان والباقلا. أما المجموعة الرابعة تتكون من نصف كر حنطة ونصف كر شعير، وكذلك زراعة أشجار الجوز والنخيل والفستق والشهبلوط والخوخ المقدد. إذا من كل ما سبق نكتشف أن الزراعة كان لها دور الرئيسي في الاقتصاد العباسي.

 الصناعة في الدولة العباسية 

أما الصناعة، فكانت بجزء منها تعتمد على الزراعة، كصناعة السكر المستخرج من قصب السكر في مصروالأحواز، أو صناعة المواد الغذائية من مشتقات الحليب وتسويقها في المدن، أما الصناعات غير المعتمدة على الزراعة، فكان هناك الصناعات الحربية كالسيوف أو نسج الحرير والصوف والكتان وأنواع الأقمشة الأخرى وازدهرت بنوع خاص حياكة السجاد في إيران وبلاد الشام وصناعة الزجاج وزخرفته وإنتاجه بأشكال فنية، وصناعة الورق التي انتقلت من الصين إلى بغداد عن طريق سمرقند على يد يحيى البرمكي وفي خلافة هارون الرشيد، والفخاريات والنحاسيات المختلفة، فضلاً عن صناعة السفن. ويمكن التمييز بين نوعين من المدن، المدن الكبرى كحلب والقاهرة والمدن الأصغر حجمًا وأقل أهمية كطرابلس، أما أكبر المدن فكانت بغداد وقد وصل عدد سكانها في القرن التاسع إلى مليون نسمة، لتكون أكبر مدينة في العالم. وكان في المدن الصغرى السوق مختلطًا لجميع أنواع السلع، أما في المدن الكبرى فكان هناك عدة أسواق: كسوق الوراقين وسوق النجارين وسوق الخضار وسواها، ويشرف على كل سوق مجموعة من العمال يشرفون على نظافة السوق، والتأكد من عدم غش التجار بالموازين ويشرفون على الآداب العامة، مع تخصيص أماكن لبيع الخمور وغيرها من منكرات الشريعة الإسلامية كما نظم عمال الصناعة أنفسهم فيما دعي الطوائف الصناعية وهي أشبه بالنقابات في عصرنا الحالي، ومهامها الحفاظ على حقوق العاملين في المهنة، وتشرف على تعليم الراغبين بامتهانها أصول المهنة. ومع تراجع وضع الدولة الاقتصادي ازداد الفقر والحرمان ولم تستطع المراكزالمخصصة لرعاية الفقراء من أداء واجباتها كما كانت في السابق، وتشير الأدبيات العباسية بعد القرن التاسع إلى انتشار الفساد والرشوة حتى في سلك القضاء. من أسباب الانهيار الاقتصادي تكلفة الحروب المتواصلة سواءً بين السلاجقة أنفسهم أو مع الصليبيين، وسوى ذلك فقد ضرب القحط والجفاف العراق وبلاد الشام فترة طويلة وزلزلت المنطقة عدة مرات بهزات أرضية، ومحصلة القول فإن ضعف الدولة العباسية كان في أحد شقوقه اقتصاديًا.

 التجارة في الدولة العباسية 

ان مساحة الدولة المترامية الأطراف، وتمركزها في قلب العالم القديم، جعل من أراضيها معبرًا تجاريًا وممرًا لقوافل البضائع بين الشرق الأقصى وأوروبا، ولعلّ طريق الحرير الذي يعود لفترة قبل الميلاد أشهرها، وقد اشتهر بتجارة التوابل والعطور، والطريق الجنوبي نحو أفريقيا حيث كان التجار يسوقون بضائعهم مقابل الحصول على الذهب التي اشتهرت به تلك الأصقاع خصوصًا مملكة غانا وقبائل السودان الوثنية، كما نشطت خلال هذا الطريق تجارة الرقيق، وقد ارتبطت الدولة العباسية بعلاقات جيدة مع الممالك المتعاقبة في أثيوبيا حاليًا وأشهرها مملكة النوبة، والتي سمحت للعباسيين التنقيب عن الذهب والزمرد في أراضيها.  كان هناك طريق تجاري بحري يربط البصرة جنوب العراق بالساحل الإيراني ومنه نحو الهند والصين وكانت الرحلة به تستغرق ستة أشهر. كانت الدولة تفرض أتاوات على القوافل، ما أمّن لها قطعًا نقديًا ثابتًا للخزينة، غير أنه في زمن الخلافة العباسية في القاهرة، اكتشف البرتغاليون رأس الرجاء الصالح، وتحولت مع الاكتشاف الجديد طرق التجارة صوب نصف الكرة الجنوبي، ما عنى آنذاك فقدان الدولة موقعها كمتحكم بالطرق التجارية، ما أدى إلى زيادة الوضع الاقتصادي خلال العهد المملوكي تدهورًا. عمومًا فإن العهد المملوكي لم يتميز قط بازدهار اقتصادي، ويضرب المؤرخون مثالاً على ذلك بأن سكان مصروبلاد الشام قد انخفض إلى الثلث عما كان الوضع عليه قبل استلام المماليك للسلطة. يعود ذلك بشكل رئيسي للفساد المالي واحتكار الثروة والصراعات بين المماليك أنفسهم، علمًا أن المماليك قد تمتعوا باستقرار سياسي بعد هزيمة المغول عام 1261 وجلاء الصليبيين عام1261م .


 العملة الرسمية في الدولة العباسية 

كانت العملة الرسمية في الدولة العباسية الدينار، وهو مطبوع من معدني الذهب والفضة، وكان ولاة الأمر يعمدون إلى خلطه بالقليل من النحاس أو البرونز بهدف طباعة كميات أكبر من النقد، ونظام الضرائب مما أسس وفق الشريعة الإسلامية من خراج وعشور وزكاة، وفي بعض الأحيان كان السلاطين أو الخلفاء يفرضون ضرائب استثنائية لم تنص عليها الشريعة، ما تسبب باعتراض الفقهاء ومنها المكوس، وعمومًا فإن الضرائب الإسلامية كانت في الغالب تجبى سنويًا أما المكوس فتجبى شهريًا. أما إنفاق أموال الدولة فكان وفق رؤية السلاطين أو الخلفاء، فعلى الرغم من أن الشريعة قد نظمت طرق الجباية غير أنها لم تنظم طرق الإنفاق، ما ساهم بارتباط طرق الإنفاق بشخصية الحاكم وحاشيته، إذا كان مصلحًا ملتزمًا أنفق المال في خدمة الدولة وتحسين مرافقها أو أهمل الأمر كليًا أو جزئيًا، وقد نقل عن نفقات قصور الخلافة بأنها كانت تشكل ثلث واردات الدولة في بعض العهود. 

الخاتمة 

 لقد أضافت الحضارة العباسية على التاريخ الإسلامي بريقًا مشعًا خاصةً في القرن الأول من حكمها، فإدارة المنصور صانع الدولة الحقيقي الذي أرسى حكمًا مركزيًا قويًا شمل أقطار دولته من أقصاها إلى أقصاها، فقد أطلق الترجمة في عهده، ففتحت آفاقًا واسعة للعالم الإسلامي الحديث واشتدت عناصر التواصل بين الأمم الواقعة تحت حكمه والبلدان المجاورة، فانتعشت الزراعة والتجارة والصناعة كما ازدهرت الفنون الحرفية وساهم اختراع الورق الذي أتى به العرب من الأسرى الصينين بعد معركة عام 751م الى نشر الثقافة العربية وما تلقته من الثقافة الزرادشتية الفارسية والهندية ومع تطور حركة الترجمة والعلوم اليونانية وآدابها. فقد سار المهدي ابن المنصور على خطى أبيه واستكمل الطريق من بعده أخوه هارون الرشيد وابنه المأمون، فدار الحكمة التي أساسها في بغداد جعلت من الأمة العباسية منارة نور وسط ظلام العالم المعروف وقتها. وقد جاءت الحياة الاقتصادية بازّدهارها نتيجة لكل هذا المسعى التطوري التي انتهجته القيادة العباسية في سنينها الأولى، أو ما عرف بالعصر العباسي الأول، وكم نأمل اليوم أن يسير القادة العرب على نهج المنصور وصولًا الى المأمون بانكبابهم على غرف العلم والإتيان به الى البيت العربي، فنحن في مجتمع اصبح بعيدًا عن ثقافة الأمس وتحوّل اهتمامه الى البكاء على أطلال الماضي، والى العمل على النعرات المذهبية والطائفية بين شعوب الأمة، مما جعل منّا نحن العرب في أسفل دركات الحضارة بعدما كنا يومًا على قمتها.