ايمان أبو شاهين يوسف - 31- 7- 2023
قرأت كثيرا حول مفهوم الاستراتيجية، وفي كل مرّة كنت اشعر بضياع وتشتت اكبر من ذي قبل. كما ولم استطع تحديد تعريف واضح ومحدد لهذا المفهوم، بسبب تنوع وتفرّع تعريفه من قبل المفكرين والدارسين، خاصة بالنسبة للغة العربية. لأنه في الاصل ليس من جذور اللغة العربية، بل هو مفهوم قديم مأخوذ عن الاغريق، حيث كان يعني الجيش او الحشود العسكرية. وكان يعبّر عنه بكلمة Strato. ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح Strategos وتعني فن إدارة وقيادة الحروب.
وStrategos لا ترمز الى اية قيادة! بل الى القيادة الحكيمة المبنية على معرفة عميقة بقدرات ونقاط قوة واضعها، وبنقاط ضعف العدو والثغرات في صفوفه، للاستفادة من ذلك واستعماله خير استعمال، من اجل وضع خطة ذكية لتوزيع القوات العسكرية والأسلحة المناسبة في المكان والزمان المناسب، من اجل تحقيق هدف الانتصار في الحرب.
إذن وبحسب جذور هذا المفهوم فهو للدلالة على مهارة وفن التخطيط العسكري في الاساس. ومن هذه النقطة سوف انطلق لتعريف معنى الاستراتيجية، وتحديد أنواعها، ومناهجها بشكل مبسط وسلسل يمكّن القارئ من الفهم والاستيعاب بشكل يسير.
ولأن النزاع ظاهرة حتمية مرافقة لحياة الانسان التي غالبا ما تتطور الى حروب، سعى الانسان منذ نشأته الى إيجاد أساليب تمكنه من الفوز في معاركه سواء كانت في مواجهة ظواهر طبيعية او هجوم حيوانات مفترسة او اعتداءات واطماع بشرية. وبحسب رأيي فإن هذه الذهنية عند الانسان هي بالفطرة او بالغريزة. حيث ان الانسان قد يستعمل كل قدراته وحيلته وحذاقته المعرفية من اجل الالتفاف حول عدوه وتضييق الخناق عليه من اجل تحقيق الانتصار والاستمرار في البقاء. هذا ما يحصل في الصراع اليومي للإنسان الذي دافعه إرادة البقاء.
ومع تطور حياة الانسان وانضمامه الى مجتمعات ودول اصبح الصراع اشد ودائرته أوسع. مما استدعى اللجوء الى خطط شاملة طويلة الأمد من اجل إدارة الحروب وتحقيق هدف النجاح.
ولآن الحروب واكبت مسيرة الانسان على الأرض وسببت له القلق على حياته ومصيره، فمن الطبيعي بأن يكون قد أعطى حيّز التخطيط ورسم الخرائط الحربية ودراسة معطيات العدو العسكرية ومقارنتها بالإمكانات والمهارات الخاصة، اهتماما كبيرة جمعه بنشاط واحد يطلق عليه اسم استراتيجية، حتى لو لم يسمّها منذ البداية بهذه التسمية. لهذا وبحسب بعض المفكرين والدارسين لتاريخ الحروب فانهم يعتقدون بان اول بواكير المؤلفات في هذا المجال، أي في مجال الكتابة عن الاستراتيجية والتخطيط، قد ظهر منذ اكثر من ست وعشرين قرنا على يد بعض العسكريين الصينيين. تلتها مؤلفات أخرى لعسكريين ومفكرين اغريق ورومان وعرب واوروبيين، تناولت جميعها المفاهيم والمبادئ الأساسية والتفصيلية للحرب. مما نتج عنه فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية تحت تسمية الفن العسكري، او الفن الحربي. وبذلك إشارة الى ان الاستراتيجية هي فن التخطيط العسكري.
قد عرف الانسان على المستوى العسكري انواعا مختلفة للاستراتيجيات:
فاصبح تبعا للمجال هناك: استراتيجية عليا او شاملة/ واستراتيجية عملياتية او عسكرية بحتة.
وضمن الاستراتيجية العسكرية هناك: استراتيجية بريّة/ استراتيجية جوية/ استراتيجية بحرية.
اما من حيث المدى فتميّزت الاستراتيجية بانها شاملة/ محدودة او مرحلية.
ومن حيث طريقة الوصول للهدف فقد تقسم الاستراتيجية الى نوعين: مباشرة/ وغير مباشرة.
وبالرغم من هذه التقسيمات فان الاستراتيجية في حقيقتها واحدة من حيث الجوهر والهدف والأسلوب.
ولآن حياة الانسان في تطور دائم، فقد توسعت نشاطاته وتفرّعت اهتماماته، ولم تعد الحروب العسكرية وحدها ما يشغله ويسبب له القلق. فدخلت السياسة، والاقتصاد (أسواق تجارية، شرك مالية....)، والتربية، والسياحة، والبيئة، وعير ذلك من قطاعات.
عبر تاريخ الحروب البشرية فإن القائد الذي كان يتمتع بدهاء وحيلة وفن اكبر من غيره في الحروب كان هو المنتصر دائما. لآنه كان ذكيّا في تحديد الرؤية للحرب الذي يخوضه، مع تحديد الهدف العام والاهداف الخصة والأنشطة جميعا ليختار منها ما هو قادر على تحقيق الهدف المنشود. ثم يضع خطة فذّة قابلة للتطبيق وتحقيق الهدف من ضمن هذه الاستراتيجية الشاملة بأقل الخسائر على فريقه واكبر الخسائر والحاق الهزائم بالعدو.
وبالقياس، والمقارنة، والاجتهاد فقد نقل الانسان هذه التجربة من التخطيط الحربي الى باقي القطاعات والأنشطة لأنه وثق بنجاحها عبر التجربة التاريخية الطويلة، والبسها ثوب الاستراتيجية العسكرية ولو كانت تختلف عن الجسد الأساسي لهذا الثوب. فتغيّرت الأهداف مع تغيّر المعطيات والقدرات. ولكنها احتفظت بالدراسة والاعداد والتوزيع الدقيق لكل خطوة وكل فكرة لتحقيق النجاح والمنفعة القصوى من العمل.
وبذلك انتقل الانسان من الاستراتيجية الحربية المعروفة بانها الخطة الشاملة للحرب الى استراتيجيات أخرى تسمى باسم النشاط التي تقوم به، ومنها: استراتيجية التسوق/ استراتيجية التسويق المعكوسة/ الاستراتيجية التربوية / الاستراتيجية الصحية/ الاستراتيجية البيئة / وغيرها ....
كما هناك جدل اليوم بين وجود استراتيجية للقطاع الخاص وإمكانية وجود استراتيجية عمل للقطاع العام، مع وجود بعض الآراء لبعض المفكرين بعدم إمكانية وجود استراتيجية للقطاع العام لانهم يناقشونها من حيث الهدف الذي بحسب رأيهم يعطى للقطاع العام ولا يحدده بنفسه.
ولوضع الاستراتيجية يجري اتباع هذه الخطوات:
1 - تحديد الرؤية أي الرسالة وتحديد الاهداف والقيم.
2: أ - دراسة البيئة الخارجية لموضوع الاستراتيجية، والتي تحدد الفرص المتاحة والمخاطر وتتضمن:
* بيئة العمل (فإذا كانت الاستراتيجية لشركة انتاج فبيئة العمل تتضمن مثلا: الدولة، السكان، الموردين، المنافسين، وجميع من له مصلحة بعمل هذه الشرمة)
* بيئة المجتمع. (وبيئة المجتمع تتضمن بالنسبة لاستراتيجية شركة الإنتاج: القوى الاقتصادية التي تمثّل تبادل الموارد والأموال، والقوى الاجتماعية والحضارية التي تمثل القيم، والقوى السياسية والقانونية التي تمثل القوانين والأنظمة).
ب – البيئة الداخلية: والتي يتحدد منها نقاط القوة ونقاط الضعف وتتضمن:
* الهيكل التنظيمي: المتمثل بالخريطة التنظيمية لأداء الشركة.
* ثقافة المؤسسة: سلوك ووجهات نظر الإدارة العامة والموظفين.
* الموارد البشرية والمالية، والتقنية، والمعلوماتية، وغيرها.
3 – صياغة الخطة التي تتضمن: المهنة، الأهداف، خطوات التطبيق، والسياسات.
4 – تطبيق الخطة وتتضمن تطبيق البرامج والميزانيات والإجراءات وإجراء تعديل في التنظيم والهيكلية حيث يلزم لنجاح الاستراتيجية، واستخدام الأهداف.
5 – التقييم والرقابة التي تقوم على متابعة حثيثة من قبل الإدارة العامة من خلال الخطوات الخمس التالية:
* تحديد ما هو مطلوب قياسه.
* وضع معايير قياسية للمطلوب قياسه.
* اجراء القياس.
* طرح السؤال حول تطابق القياس مع الخطة الموضوعة. إذا نعم. (يكون قد تحقق الهدف فتقام احتفالية لترسيخ الدافعية والمبادرة والتمسك بالأهداف المنشودة وتفعيلها).
وإذا كان الجواب لا. (يتم اجراء تعديل وتصحيح بعض النقاط التي كانت سبب عدم النجاح).
اصعب ما يواجهنا في تحقيق الخطة عادة هو رفض الناس التغيير. لذا يجب التحضير المسبق لتنفيذ الخطة بالدعاية والاعلان واللقاءات المختلفة لترسيخها عند الناس حتى يكونوا مستعدين لتقبلها.
وبالخلاصة فاني اعتبر ان التعقيد في الدراسات والأبحاث لا يخدم الهدف منها. وان تبسيطها وتوزيعها بشكل سهل وسلسل يسهّل فهمها، كما يسهل استعمالها وتطويرها بما يخدم الهدف من وضعها. لهذا فإنني اعتبر ان الاستراتيجية هي الدراسة الفنية الشاملة لكل المعطيات والإمكانات والتوقعات. والخطة هي الجزء التقني أي الميكانيكي من الاستراتيجية.
ومن الممكن من وجهة نظري ان يكون للاستراتيجية الواحدة اكثر من خطة، تعمل جميعا بالتكامل والتعاون لتحقيق الهدف العام المرجو من الاستراتيجية. مثالا على ذلك: لتحقيق النصر في حرب دولية فقد توضع استراتيجية شاملة طويلة الأمد تتضمن خطة حرب بحرية، وخطة حرب جوية، وخطة حرب برية، وخطة تفاوض....، وجميعها لخدمة تحقيق الهدف المرجو من الاستراتيجية.
اذن الاستراتيجية هي الدائرة الكبرى والخطة هي حلقة من حلقاتها. وقد يكون للاستراتيجية الواحدة ذات الرسالة او الهدف الأعلى بعيد المدى، مجموعة من الخطط لكل منها هدف خاص قابل للتطبيق بمدة زمنية محددة. كما يمكن ان يكون للاستراتيجية خطة واحدة ذات هدف متطابق مع الهدف الأعلى للاستراتيجية. وهنا تصبح الاستراتيجية هي نفسها الخطة. أي ان الاستراتيجية تتطابق مع الخطة. وهذا ما كان يربك الكثيرين في تحديد مفهوم الاستراتيجية.
- اللعب للفوز – كيف تنجح الاستراتيجية حقا – ايه – جي - لا فلي/ روجر إل. مارتين
- عن الاستراتيجية الكبرى – جون لويس جاديس – مكتبة جرير pdf
- مقال عن منهجية الاستراتيجيات الفعالة. الموقع الالكتروني الرئيسية.
- مقال عن استراتيجية- ويكيبيديا.
- مقال عن مفهوم الاستراتيجية قديما وحديثا وإمكانية تطبيقها في القطاع العام مقارنة بالقطاع الخاص (موقع الكتروني linkedin )