اضطراب الكرب وصداهُ المسافر عبر الأجيال!

هايل شرف الدين 
اضطراب الكرب عرضٌ عُصابيّ اقتحاميّ يهاجم الذهن بسلسلة من الذكريات غير المرغوب فيها، ترافقها مجموعة من مشاعر الضيق العاطفيّ والجسديّ والكوابيس الليليَّة.

يحصل هذا النوع من الاضطرابات بعد حدوث مشكلة كبيرة على غِرار: مشاهدة المرء جريمة قتل أو المشاركة في خوض حرب أو رؤية كارثة طبيعيَّة أو حادث أليم.

وقد يأتي هذا الاضطراب كحالةٍ فرديَّة، وقدّ يصيب جماعة بأكملها.على سبيل المثال: شاب مراهق وأثناء مشاهدته لجريمة قتل واقعيَّة على شاشة جواله، شعر بحالة من الرعب الشديد لدرجة دخوله في حالةٍ من التماهي مع مايراه، والقيام بتقليدٍ لاإراديّ لحركات الشخص الواقع تحت عقاب الإعدام وردَّات فعله وتقمُّص حالته للحظات.

وقد أضحى هذا المشهد مع مرور الوقت ضيف ذهنه الدائم الذي يأبى المغادرة. وتسببت له ذكرى هذا المشهد إعاقة على مستوى السلوك الاجتماعي، حيث بات يتحاشى رؤية الناس وزيارة الأماكن تجنّباً لوجود أي قاسم مشترك يعيد إلى ذهنه ذاك المشهد المروّع الذي رآه.لينتهي به المطاف في عيادة الطبيب النفسيّ.

إلى ذلك يمكن لاضطراب الكرب أن ينشأ نتيجة تراكم مجموعة من الصدمات النفسيَّة، وتكريس الشعور بالأسى والحرمان العائد إلى فترات الطفولة كالتخلِّي والخذلان الحاصل من مقدِّم الرعاية كالأب مثلاً. أو بعد البلوغ من مصدر الحب كالزوجة.

تُعتَبَر الاستجابة النفسيَّة للضغوط والمشاكل أمرٌ طبيعيّ وذلك عندما تكون على شكل ردَّات فعل نفسيَّة وسلوكيَّة تحاول في مجملها مجاراة واحتواء الأحداث ذات الأثر الشديد على الذهن.لكنَّ هذا النوع من الاضطرابات يكون عمليَّاً فوق قدرة المرء على احتماله وعلى التعامل معه.حيث يتراوح اضطراب الكرب من اضطراب التوتُّر الحاد، والذي عمره الزمنيّ لايزيد عن ثلاثة شهور إذا ماتمَّت متابعته ومعالجته، إلى اضطراب مابعد الصدمة غير المعقَّد، مروراً باضطراب مابعد الصدمة الانفصاليّ، أي المُرفَق بأعراض مَرَضيَّة قريبة من اضطراب الهويَّة التفارقيّ والفُصام، وانتهاءاً بالاضطراب الأشدّ خطورة وهو: اضطراب مابعد الصدمة المعقَّد. وهو معقَّد لكون أعراضه تتداخل وتشترك مع أمراض ذُهانيَّة أخرى كاضطراب: الشخصيَّة الحدّيَّة، واضطراب: ثنائيّ القطب.

لعلاج هذا النوع من الاضطرابات لابدَّ من تظافر مجموعة من تقنيات العلاج: كالعلاج الدوائيّ، والعلاج المعرفيّ، والعلاج النفسيّ.

ومن أهم طرائق العلاج النفسيَّة هنا: العلاج بالتعرُّض.أي تعريض المريض بشكل مخفَّف وتدريجيّ للسبب الذي أدَّى إلى حصول هذه الاضطرابات، وذلك على مراحل بغية تذليل السبب المؤدّي إلى الإشكال الذهنيّ، وتمييع الحالة المُتصلِّبة فيه.كما وتُعدّ مشاركة مثل هكذا مشكلة مع شخص موثوق وذو كفاءة عالية أمر ضروريّ للخروج من المشكلة وصداها المُكرَّر في الذهن، عن طريق البوح له بجميع كواليس وخبايا المشكلة التي تقبع في الظِل.

هذا في مايخُصّ الاضطراب على المستوى الفرديّ، لكن ماذا بخصوص هذا الاضطراب على المستوى الجماعيّ، وماذا عن صداهُ المُسافر والمُكرَّر عبر الأجيال؟!حيث نلحظ نوع محدَّد من الرُهاب يعاني منه مجتمع بأكمله ولايعاني منه مجتمع آخر! مع التنويه إلى أنَّ لهذا المجتمع أو لهذه الأُسرة الكبيرة ذاكرة أليمة نتيجة حادثةٍ حصلت لها سابقاً وخفرت عميقاً في ذاكرتها،فجاء الرهاب متجانساً مع الأثر التي تركته.لكنَّ الغريب هنا هو في أنَّ من شهدوا الواقعة هم أموات اليوم! فكيف يعيش الرهاب المتعلق بها أفراد آخرون ولدوا بعد هذه الواقعة بكثير؟

تبدو المسألة أكبر بكثير من مجرَّد تبنّي الحالة أو تقصُّد تذكُّرها!!إن صدقت رؤية سيغموند فرويد حول "اللاوعيّ السُلاليّ" أي الإقرار بانتقال الحالة الانفعاليَّة من جيل لآخر بتوارثٍ بيولوجيّ، قد تقدّم لنا تفسيراً مُقنعاً لتأثُّر مجتمعٍ بأكمله بتجربة مؤلمة أو كارثة حصلت في زمنٍ قديم ومازال أفراد هذه الجماعة يعيشون الواقعة (انفعاليَّاً) كما لو أنها حصلت اليوم.أو ظهور مشاعر القلق غير المبرَّر والخوف لدى مجتمعات كانت قد شهدت في زمان ما كارثة طبيعية مروّعة لكن من خلال جيل سابق لم يتبقى منه أحد، وقد تمّ توارث هذا القلق لاشعورياً من جيلٍ إلى جيل آخر!وليس المقصود هنا قيام جماعة معيَّنة بممارسة تقليدٍ ما أو طقسٍ جماعيّ، والتباكي على الأطلال، لا بل في عَيش هذه الحالة وهذا القلق فعليَّاً!!