إدارة التنوّع والاختلاف ومرسوم الحاكم بأمر الله

 ايمان ابو شاهين يوسف - 7- 6- 2023


يشير القرآن الكريم في كثير من آياته الى الاختلاف بين الناس الذي يؤدي الى التعددية. ويؤكد بأن هذه التعددية هي مشيئة الهية، حيث قال تعالى: " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الحجرات:13 

كما قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" الروم: 22

 الاختلاف بين الناس يعني التنوع. هذا التنوع الذي قد يكون عرقيا، اثنيا، لغويا، دينيا، فكريا، ثقافيا، او غير ذلك من أوجه عدم التشابه. 

والتنوع الإنساني يمكن ان يكون طبيعيا او مكتسبا. امّا الطبيعي وكما اسلفنا فإنه مشيئة الله تعالى وهو على كلّ شيء قدير. اما التنوع المكتسب وان كان ظاهريا هو قرار ارادي إلاّ انه بطريقة غير مباشرة يمكن القول انه أيضا مشيئة ربّانية بالنسبة للعديد من بني البشر. 

قد يتساءل البعض كيف يكون التنوع مكتسبا؟ 

التنوّع المكتسب هو كل تنوّع سببه غير طبيعي، كالتنوع اللغوي، او الفكري، او الثقافي، ... وهذا التنوع سببه الادراك المختلف والتعبير المختلف. وقد عرّف علم النفس الادراك بطرق مختلفة بعد ان ميّز بين الادراك الحسي الذي هو انعكاس الدماغ على الواقع بطريقة غير ارادية. 

 والادراك العقلي الذي هو عملية عقلية يتم من خلالها تعرف الفرد على محيطه الخارجي، عن طريق استقبال المنبهات الخارجية بحواسه، ومن ثمّ تأويلها وتفسيرها حسب الاتجاهات الذاتية وهو إرادي وغير ارادي، وكما يقول الفيلسوف توماس كوهن: ان ما يراه الانسان على سبيل المثال، يعتمد على ما يراه طبعا، ولكن أيضا على ما عَلِمَه من تجارب الادراك البصري السابقة.

 أمّا التعبير: فهو الفن الذي يستطيع من خلاله الانسان إظهار أفكاره، وعواطفه بلغة سليمة، وأساليب رائعة، لكي يتواصل فيما بينه وبين الاخرين.. 

هذا التعريف هو للدلالة على المفهوم المبدئي للإدراك والتعبير، لكن اذا حاولنا الغوص في متاهاتهما فسوف نجد مؤثرات كثيرة تدخل في انتاجهما فتتشابك لتؤلف الخارطة الادراكية التي تنمو وتتشكل مع الانسان لتصبح حاجزا وموجها يتحكم بتحديد رؤيته لحقيقة ما، مما يجعله يدركها او يعبر عنها بطرق مختلفة تنتج التنوع الإنساني، وهذا هو سرّ الاختلاف حيث يقوم الناس عند  حصول خلاف بينهم  بممارسة الجدل حول مسلمات وتحيزات مسبقة وما تعلموه من تجاربهم السابقة، ولا يكون الخلاف بالحقيقة  حول الأمور المباشرة بل  حول حقيقة الادراك نفسه . واللغة نفسها في كثير من الأحيان تكون سببا لحجب الادراك إضافة الى المكتسبات الموروثة، المؤثرات (اجتماعية، سياسية، اقتصادية...)، التجارب المتراكمة والعوامل النفسية- اجتماعية وغيرها من الأسباب، وهي ما نسميها بالمخزون العقلي والتي يشكل خارطة الادراك التي تتحكم برؤيتنا للأمور هذا التحكم الذي يسلّط الماضي على الحاضر. 

اما التعبير وكما جاء بالتعريف هو فن يجب تقديمه بلغة سليمة وأسلوب راق وهذا ما لا نجده كثيرا في واقع الامر. كما نجد اختلافا في التعبير عند بعض المفاهيم ومنها الزمن حيث تكشف الأبحاث في العلوم المعرفية والادراكية ان مفاهيم الزمن عند البشر تختلف عبر الثقافات وتعتمد في حيّز كبير منها على الاستعارة والمجاز وهذا ما يسبب الخلاف حول كثير من الدلالات والمفاهيم اللغوية بين البشر.

 واذا كان الامر كذلك بالنسبة للإدراك والتعبير فكيف يمكن ان نجد الحقيقة، وهل هناك من حقيقة مطلقة؟ 

فلسفيا فان الحقيقة هي من اكثر المواضيع المطروحة للنقاش، وتعرّف على انها الصفة او الميزة التي تتسم بها الافتراضات والأفكار والعبارات والمعتقدات والادعاءات ليتم اعتبارها مثبتة وواقعية وصحيحة. 

والحقيقة مفهوم غامض وملتبس نظرا لاختلاف مجالاتها وتنوعها واختلاف اوجهها. إضافة الى اختلاف معاييرها والطرق المؤدية اليها وذلك بسبب الادراك المختلف سواء الحسّي او العقلي مما يعني اننا مهما اجتهدنا وناقشنا وقمنا بتجارب فان الحقيقة ستبقى ناقصة، حتى لو كانت كلّها بين أيدينا. فبسبب عدم قدرتنا الكاملة على الإحاطة بها فسوف تبقى نوعا من الخلاف الذي لن يوصلنا ابدا اليها، ومن الممكن ان يأخذنا الى مكان اخر كما فعلت الفلسفة البراغماتية التي أخرجت الحقيقة من ثنائية العقل/ التجربة وميّزت بين الرأي والحقيقة وربطت المعرفة بالحاجة والمنفعة. اما نيتشه فقد رفض ايضا معيار المطابقة وشكّك في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة.

 امام هذا التضارب والتنوع الإنساني الكبير ما هي الآلية التي يمكن اللجوء اليها لضبط وإدارة مسار هذا التنوع؟

 لقد جاء في القرآن الكريم: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات:13) 

وجاء: " ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة: 251) 

ولأن التنوع سنّة كونية ومشيئة الهية فإن من الضروري العودة الى آليات موثوقة لإدارتها وهذا ما نجده في القرآن الكريم، حيث ورد آليتان لإدارة التنوع وهما: التعارف والتدافع.

 التعارف هو ان ينفتح الانسان على الاخر ويتواصل معه لان كل امر تجهله تخافه وتبتعد عنه لتبنى بيننا الجدران والسدود ونعيش في دوامة الوهم والاتهام.

 اما التدافع فهو يأتي بمعنى العطاء والتسليم ولا يقتصر على التسليم على الأمور المادية، بل إعطاء كلّ ذي حق حقه سواء بالإيمان، او الثقافة، او الفكر، او أي امر آخر، حتى لو كان مختلفا عنا بأي ميزة او صفة. 

اما الحاكم بأمر الله وعلى اثر ما وقع بين الشيعة واهل السنة من خلاف حول تفسير بعض الآيات القرآنية فقد أصدر مرسوما عام 1008م. يقرر فيه بعض الاحكام محاولا التوفيق في ذلك بين المذاهب المختلفة، وقد جاء فيه بعد الديباجة:

 " يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخميس للذين جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون، يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، لا يسب أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما خلف، لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، والى الله ربّه ميعاده، وعنده كتابه وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يستعلي مسلم على مسلم بما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما اعتمد، من جميع ما نصه امير المؤمنين في سجله هذا، وبعده قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلَّ إذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتك تعلمون" 

اذن ان التنوع والاختلاف بشتى اشكاله هو مشيئة الهية " ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة.” (هود: 118)

 لكن هذا الاختلاف والتنوع الذي يمكن ان ينشب عنه نزاع، يجب ان لا يفضي الى شرور وحروب وتمزّق في المجتمعات، وتشكيك بالآخر والابتعاد عنه، لان الخالق واحد وهو مصدر التوحيد الذي يجب ان يجمع وان لا يفرّق ابدا مهما كانت الطقوس المتبعة لعبادته واجلاله.  ولو أراد الله تعالى ان يبقى جميع الناس امة واحدة لما أنزلت هذه الآية في القران الكريم: "وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا" يونس ز19).

 كما جاء في الانجيل المقدس: تلزمنا الثقة لكي نستطيع ان نحمل بعضنا أثقال بعض (غلاطية 2:6) وأن نعمل على " التحريض على المحبة والاعمال الحسنة"(عبرانيين 24:10) الثقة مطلوبة لكي نستطيع ان نعترف بعضنا لبعض بالزلات"(يعقوب 16:5) ونشارك الاخرين باحتياجاتنا"(يعقوب 14:5. رومية 15:12)


وليكن شعارنا دايما: قبول الآخر مع الاختلاف . 

المراجع 

- القرآن الكريم. 

- كتاب المقدس 

-كتاب الازهر في الف عام دكتور محمد عبد المنعم. 

- كتاب ظواهرية الادراك - موريس مرلوبونتي- ترجمة د. فؤاد شاهين 

- كتاب الادراك ودرجات الوجود- زكريا محمود راشد

 - كتاب التنوع الثقافي والعولمة- ارمان ماتلار -   

ومعنى الخلاف والاختلاف هو المضادة والمعارضة وعدم المماثلة. وكل ما لم يتساوَ فقد تخالف واختلف.