فادي الشامي - 11 - 3- 2023
سعيد أحمد أبو شاهين
نحن اليوم برفقة أديب مهجري ، يتنقّل فينا بين بساتين أدبه ، المملؤة شعرا ، وقصصا ، ورواية ، وشذرات حكمية ، وفلسفة . خطّ كلماتها في أميركا ، وجمع معانيها من اختلاجات النفس البشرية التي تحركت في صدر كل انسان من بني البشر، ومن حركة الحياة النابضة في كلّ ذرة من هذا الوجود.
أحبّ هذا الأديب الانسان والوطن ، ومجّد الله الذي بعث في الانسان قبسا من نوره ، فكان همّه وهدفه في هذه الحياة بأن تتحقّق سعادة الانسان ، وتمتلئ الارض بالعدل وتنعم الاوطان بالحرية والاستقلال.
يتمتع هذا الرجل بصفاء الذهن وصدق المشاعر ، الأمر الذي ساعده على فهم الحياة وتقبلها كما هي ، ولأنه تمكّن من ان يجعل من فكره نصيرا لوجدانه ، استطاع وبرفقة الفكر والمفكرين من أن يعمل على تنقية هذه الحياة من خللها وأدرانها ويرسل أناشيد الفرح والتفاؤل لبني الانسان ، فكان شعاره :
الانسان هو الغاية وهو الوسيلة
حيث قال:
هكذا الانسان جاء غاية …وهو الوسيلة
هكذا كلّ خفاء جعل العقل دليله
أين أرباب الذكاء للمسافات الطويلة ؟
أيقن هذا الأديب بأنّ مفتاح السعادة الانسانية هو : العلم والمعرفة ، ولا شيء يمكنه أن يكشح ظلمة الليل الاّ نور النهار ، لذا أطلق في مقدمة باكورة اعماله الأدبية ( كتاب شمس الربيع) نداءه الى الانسان قائلا :
اقرأ
وأرسلها أبياتا شعرية رقراقة ، كلماتها رذاذا محملا ببرودة منعشة ، وجملها سحب تسكنها الآيات السماوية وجاء فيها :
خذ به بالرفق ، واقرأ بتروّ …. وأناة
أنت في محراب سفر موقظ فيك الحياة
مثلما شمس الربيع أيقظت قلب النواة
وأكمل في قصيدة أخرى تحفز من هم لبّوا النداء وقال :
حيّاكم الله ، أهديها تحيّاتي للعاكفين على آيات أبياتي
للعاكفين ، يكاد الروع يأخذهم ممّا يطالعهم من روع آياتي
آيات شعر .. يطلّ الفجر مشتعلا منها ليهدي سبيل الذاهب الآتي
يهدي السبيل لمن ضلّ السبيل به في عالم الوهم أو دنيا المتاهات
والواضح جدا من هذه الأبيات تأكيد الشاعر على وجود كثير من الأوهام والأباطيل بين طيات معارفنا وثقافتنا ، لذا وايمانا منه بالانسان وقدراته متى وعى وأراد ،أطلق شعره مبيّنا عظمة الانسان القادر على العطاء كما هو طالب للأخذ ، وهذا بعض ما قال :
سلّ ضمير الدهر عنّا سيجيب الدهر أنّا
نحن من جاؤوا فأعطوا كلّ ما الدهر تمنّى
واذا انشق صباح أو ضمير الليل جنّ
بسط الحبّ جناحيه عليهم.... واطمأنّا
وبعد هذه الأبيات يصبح واضحا بأننا نتكلم عن شاعر حكيم ، مفكر وفيلسوف ، حفر فلسقته على كل باب من أبواب أشعاره ورصّع حكمه على جبين كلّ قصيدة ، ولأنّه ثاقب البصر والبصيرة ، أضاء نور سراجها بقبس من نور الله حيث رأى في صباح هذا النور أن قيم الوفاء هي التي تؤنسن العلاقة البشرية وتؤسس لحياة آمنة ، مستقرة .
قال :
خذ هذه الدنيا وما فوقها واعطني منها الرفيق الوفي
فتظلّ منها تشتكي علّة وأكون فيها الراضي المكتفي
من لم يهب للحب أيامه ماذا له من عمره الأجوف
وبعد هذه الايضاءات الانسانية انطلق الأديب بشعره يستنهض ارادة الحياة في جوهر انسان هذه الحياة فخاطبه قائلا :
اتعب تلق ، واخمل تخب واطلب تحصل غبّ الطلب
وابصر ما في الدهر تعلم أنّ الراحة بنت التعب
ان الحقّ يقول بهذا وهذا ليس شيء عجب
بقلب الفحم عروق الماس برمل النهر نثار الذهب
طغى على شاعرية هذا الاديب شخصيته الانسانية الفذّة ،الهادرة احيانا كالسيل الجارف ، والمنسابة حينا آخر كترقرق الينبوع الهادىء .
وبفكره الفلسفي وموهبته المتقدمة في الاستبصار والاستبطان راح يحث الانسان على معرفة حقيقة من هو بهذا الوجود ، حيث قال :
من ترى في الكون نحن ؟ انّنا الانسان نحن
نحن أبناء الاله
وترانا أين نحن ؟ في نعيم الله نحن
نحن في وهج الحياة
وعلينا الله يحنو يا تقدّس من اله
يا تمجّد في علاه
وبوضوح أكبر تتجلّى الفلسفة في أشعاره ، حيث وقف أمام ذاته متسائلا :
هل أنا انت وهل أنت أنا أيها الجسم الذي تمشي بنا
لا أرى هذا صحيحا كلّه انّ بعض الفرق يبدو لنا
والفلسفة لم تمنع هذا الشاعر من الدعوة الى الفرح والتفاؤل في أشعاره والابتعاد عن كل أسباب التشاؤم حيث قال :
لك حبّي وصلاتي يا بديع الكائنات
أنت كلّ النور منه قبس في ذات ذاتي
وكما انشغل هذا الشاعر بالانسان وقضاياه ، كذلك انشغل بالقضايا الوطنية والعروبة، فقال في قصيدة " بيروت يا واح الهنا ":
بيروت يا واح الهنا أنت ويا كلّ المنى
بيروت يا من كنت منذ الدهر حاضرة الدنى
العزّ يخدم عزّها ولمجدها المجد انحنى
كما حذّر الغافلين عن مجد أمّة العرب قائلا:
يا غافل بالارض لا ترم بني العربي
بالمحل والجهل ، أو تخرج عن الأدب
يا غافل بالأرض هل في غير أرضهم
قام مسيح وبين الخلق قام نبي
فاغضض بطرفك واسكت واستح ندما
واستغفر الله عمّا قلته وتب
وعن العروبة:
ان تسل من هي أمي وأبي أو تسلني عن صراح النسب
أنا من ينمى لمن .. ان ذكروا خرّت الأذقان حتى الركب
أنا من أرض ومن قوم رقوا قمّة العليا بألفي سبب
أكرم الأنساب طرّا .. أنني عربيّ عربيّ عربي
وقال في ثورة الحجارة :
طال ياعي... وذراعي
يا زناة الأرض يا عار البشر
ايه .... أبناء الأفاعي
لم يحطم رأسكم مثل الحجر
وتجاوز شاعرنا بفكره ووجدانه حدود الاوطان مخاطبا الأرض والأنسان في اي بقعة من بقاعها فقال :
الأرض أمي وروح الكائنات ابي هل بعد أشرف من أصلي ومن نسبي
وأينما وجد الانسان فهو أخي لزّ القرابة من عرقي ومن عصبي
بالاضافة الى الشعر الموزون في كتبه الخمس ( شمس الربيع ، ارادة الحياة ، نسائم السحار ، مسارح النحل وصلاة الخريف ) ، قدم لنا كتابا زجليا بعنوان " خواطر زجلية " يحتوي 185 بيت عتابا بالاضافة الى المعنّى ............
منها :
اضحكي للحيّ لا تبكي على مات وبيوم الفحص حطيلو علامات
وعا درب العمر منصوبي علامات نهارات حب وليالي طرب.
وفي موضوع آخر قال :
يا الكنت جايي صوبنا شو رجّعك ما عرفت قلبي شو بتنوي بيسمعك
ناوي تلوعني ...استحي..أمّا أنا ولو كنت فيّي لوّعك ما بلوعك .
سعيد أبو شاهين ليس شاعرا وحسب بل هو كاتب متمكن ، قصّاص اجتماعي ،روائي واقعي ، .كتب الشذرات الحكمية والفلسفة فكان له كتاب :
لمعات الخواطر جاء فيه :
قالوا : لو أنّ بهذه الأرض خلق آخر، كيف يكون حالها
قلت : مثلما يكون حال الخلق الآخر . قلّما يبيع التاجر ، الاّ الثمار الفجّة المزّة كي يستغلّ السوق . وقلّما يطعم صاحب البستان الاّ الثمار الناضجة اليانعة ، كي يلذّ الآكلين .
اللهمّ أبعد التجار عن ثمار الأفكار.
أفكار من عالم الابكار ، نختار منه :
- الوصف يعبّر عن صفة الواصف أكثر ما يعبّر عن ذات الموصوف .
- قال : انّ أفضل الرأي هو ألاّ نخالف سنّة الطبيعة بل " تطورها " .
- متى مشيت ووجهك الى الشمس ، مشى ظلّك وراءك .... ومتى مشيت وظهرك الى الشمس ، مشى ظلّك أمامكم
- كم من حقيقة اعتقدها الانسان ثمّ تكشّفت عن وهم .
-ليس الريش ما يجعل النسر نسرا .
- قال : ماذا علّيّ أن أفعل كي تحبيني ؟
قالت : أن تحّبني .
واشارات وبشارات ، منه :
الفلسفة : لقد كان أرسطو محقّا في قوله : انّ ما كان يعرفه طاليس وانكساغوراس يمكن وصفه بأنّه كان خارقا ومدهشا ، صعبا والهيّا . ولكنّه أيضا عديم الفائدة ، لأنّهما لم يضعا هذه المعرفة في خدمة " خير الانسانيّة "
الحكمة : قبل أرسطو وفي زمنه كان للفلاسفة آراء كثيرة في أصل الوجود وفي الغاية منه. فقال "طاليس " : أساس الوجود ( الماء ) وقال " أنكسيمندريس" : ( المادة اللامحدّدة ) ، وقال " أنكسيمانس " ( الهواء ) ، وقال " فيثاغورس " ( ألأعداد ) ، وقال " اكسانوفان " ( الواحد الله ) ، وقال " "بارمنيدس " ( الوجود ما هو واللاوجود ليس هو ) ، وقال " ميلوس " ( لم يولد ، لا بداية ، لا نهاية ) ، وقال " زينون الأيلي " ( بثبات الواحد ، لا كثرة ولا حركة ) ، وقال " لوقيبوس " ( الكثرة والحركة ، والامتلاء والخلاء ، مبدأ واحد ) ، وقال " أنبادوفيس " ( التراب ) ، وقال " ديمقريطس " ( الوجود ذرّة ، العدم خلاء ) ، وقال " انكساغوراس " ( بوحدة الواحد والكثرة والحركة ولا خلاء ) ، وقال " بروتاغوراس " ( الانسان مقياس كل شيء ) ، وقال " غروجياس " ( الكلمة هي الأصل ) .
كلّ هذا وأكثر من هذا قالته الفلسفة والمذاهب والشرائع والمعتقدات في زمن أرسطو ، فقام ينظر بعقله الثاقب ويقرّر بأنّ كل هذه المعرفة الخارقة المدهشة والصعبة والالهية عديمة الفائدة لأنها لم توضع لخدمة " خير الانسان "، ولو أنّ أرسطو يعود بعد ألفين وأربعماية سنة وينظر لما نحن عليه اليوم ، لقال ما قاله بالأمس ، لأنّ حال الفلسفات والمذاهب الفكرية ، والايحائية لا تزال كما كانت ، عديمة الفائدة ، بحيث أنّها لم توضع أو تعمل لخدمة " خير الانسان " ، بل انّها وضعت لتكرّس من الانسان "عبدا " لشهواته وأطماعه ، وغرائزه ، التي لم تهذّبها كلّ هذه التصنيفات وكل هذا الزخرف من القول ، بل انّه لا زال وكأنّه انسان المغاور والكهوف ، يدّعي الرحمة ولا يرحم ، ويدّعي الحب وهو الحقود ... وهو العبد الخادم – على ما يدّعي – لربّ ليس بحاجة الى عبادة ولا خدمة ، وهو الذي اذا شاء أمره أن يقول للشيء كن فيكون. نعم ، لقد أثبت تعاقب الزمان بأنّ كلّ هذه المعارف الخارقة والمدهشة ليست هي التي تسعد الانسان . فالانسان لا يسعد ولا يوفّر له الخير الصحيح ، ما لم يأت بعلم يوقظ به جوهر انسانيته التي اليها ينتسب وبها كان ، وبها يصبح انسانا . بأية حال كان الانسان يبغي الخير لنفسه ، منهم من يطلبه ماديّا ، ومنهم من يطلبه روحيّا . ولكنّه للآن ، ولبعد الآن ، قد لا يجد هذا الخير الحقيقي ما لم تستيقظ انسانية عالم الأنسان وهذه مهمة " الحكمة " .
عاش الأديب أبو شاهين هموم الناس ووقف على قضاياهم ومشاكلهم ، وتأثّر بالمجتمع الذي عاش فيه ، فكتب بصدق دون مواربة ، وأعادنا بقصصه الى عبقرية القرية قبل أن تفترسها أشباح المدنية ونقل لنا بجمالية تسحر النفس وتوقظ المشاعر رسما فنيّا بديعا استقى الوانه من التراث الثقافي الشعبي موائدا غنية تشبع الروح قبل أن تشبع الجسد ، وأعادنا الى محلوب الدبس ، ومدّ القمح ، والصاج ، وغورية الزيتون ، والقورما ، اضافة الى الامثال الشعبية القصيرة التي تختصر تجارب بشري طويلة .
آمن الأديب بالمرأة ، وقدّر فيها حكمتها وصبرها وعطاءها ، وجعلها بطلة قصصه الثلاث ( بذرة وتراب ، السرّ الدفين والأجنحة الخفاقة )
هذه المرأة التي لم يكسرها استبداد الظلم والظالم وقسوة الجهل والأوهام ، بل وببعد بصرها ونور بصيرتها استطاعت أن تواجه كل الصعوبات ولاباطيل وتنتصر .
ففي قصة الأجنحة الخفاقة استطاعت أن تواجه الجهل وتت، غلّب على من ظلمها بسلاح العلم والمعرفة ، وكان لها ما أرادت في نهاية القصة حيث أنشأت الجامعة الأنسانية.
وفي قصّة السرّ الدفين ، رفعت عنها حجاب الظلم والظلام وانبرت تعمل في الأرض بجدّ وثبات لتحمي أطفالها من الجوع القاتل ونفسها من أنياب الذئاب البشرية.
أمّا في قصّة بذرة وتراب ، فقد استطاعت بمعرفتها وجمال نفسها وتعاونها مع الشرفاء من بني البشر واسترشادها بالوعي الموجود في كل كائنات الطبيعة ، أن تؤسس شريعة انسانية جديدة تؤمن بانسانية الانسان وحقه في العيش بكرامة . وتقضي على الاوهام والأباطيل الموروثة .
وبالاضافة الى القصة القصيرة كتب الأديب الرواية الواقعية الهادفة فكان كتاب جوهر المرآة الذي يروي لنا حياة ولي من أولياء الموحدين والذي كانت حياته نور هداية وكلمة صدق للسائلين.
وأخيرا لا يسعنا الاّ ان نرفع القبعة لهذا الأديب المميّز الذي أعطى غلّة ثقافية أغنت المكتبات الوطنية والعالمية.