بقلم: المحامي والفنان التشكيلي الأستاذ عامر الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار..." صدق الله العظيم. سورة النور.
منذ وجوده بدأ الإنسان يرسم ويبتدع الوسائل والأساطير التي تمكنه من مواجهة الطبيعة والمخاطر المحيطة به، لقد خلق الله العالم، والإنسان أبدع عالماً آخراً داخل الكون الأشمل عن طريق الفن، لأن الله كرّم الإنسان وجعله على أحسن وأشرف صورة في الشكل والمضمون، وقد خصّ هذه الصورة الإنسانية " بالهيبة والجمال والاعتدال وانتصاب القامة ولطافة العقول لتقوى بها على اكتساب الصناعات".
وجاءت جميع الأديان والكتب السماوية في منطقتنا ليدرك الإنسان "أن جميع الأفلاك وما في السماء يخدمون الأرض وما عليها بسبب النور الذي فيها".
كما أنه "لا تدرك الأنوار إلا بمثلها".
فعندما أراد بابا الفاتيكان إعادة قراءة وصياغة الكتاب المقدس وجذب الناس إلى الكنيسة أمر الفنان مايكل أنجلو أن يرسم سقف الكنيسة السيستينية "مقر البابا".
وكان العرب كغيرهم من الشعوب الذين اهتموا بالفنون عن طريق تقليد الطبيعة وإيجاد ما لم تستطع الطبيعة إيجاده وذهبوا في ذلك بعيداً حتى وصلوا إلى صناعة التماثيل وتقديسها وعبادتها حتى ظهور الإسلام...
والسؤال الذي يطرح: كيف كان تأثير الدين الإسلامي وباقي الأديان على الفنون العربية؟
في القرآن الكريم لم يستعمل لفظ التصوير إلا في صدد الحديث عن الإنسان، قال تعالى:
"خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم" سورة التغابن الآية 3.
"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" سورة التين.
وإن الزينة والصنع والإبداع هي بهجة واختبار للإنسان أيركن إليها أم يجتازها إلى عبادة الله فالجمال فرصة للتدين والتقرب من الباري، قال تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لِنَبلُوَنَّهُم أيهم أحسن عملا". وقال تعالى أيضاً: "وقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين".
كما أن القرآن الكريم لا يكتب كتابة بل يرسم رسماً ولذا تجد الكلمة نفسها تغيرت عندما تغير موقعها كما أن بديع آياته لا تُقرأ قراءة بل تُتلى تسجيعاً، وفي متن روايتها فنون القصص وروائع الأمثال والحكم القرآنية.
قال ابن عربي: "ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حياً، عالماً، قادراً، مريداً، متكلماً، سميعاً، بصيراً، مديراً، حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه"، يؤيد بقوله أهمية الجمال وتخصيص الله فيه الإنسان.
وفي الكتاب المقدس والمزامير جاء في التكوين 27: "فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم".
لقد كشف الكتاب المقدس أن الله أعطانا شكلاً مذهلاً، قال أحد المزامير القدماء:
"أحمدك يا الله لأني صنعت بطريقة تثير الرهبة والعجب" مزمور 14:139.
كما صنعت أسفار "أيوب – المزامير – الأمثال – الجامعة – نشيد الإنشاد" أسفاراً شعرية لأنها الشعر يشكل لغة القلب لنكون صادقين في إيماننا.
وفي مذهب أهل التوحيد "الدروز" والأصول التوحيدية فإن للإبداع شأن يتجاوز الفن والحضارة إلى التقديس واللطافة والنورانية التي لا تدرك إلا بمادة من اللطافة والنورانية والأبصار الصحيحة. "إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماءُ".
كما أن من صنع شيئاً فقد "خلقه"، "لأن خِلالَ أهل الدين الورع والحلم والافتخار بالبراعة والعلم" والمعروف أن البراعة هي التميز بالعلوم والفنون والخط والتفوق بإتقانها...
يتبين لنا مما ذكرناه أن هذه النواميس والشرائع بشموليتها وكليتها وروحانيتها صبغت المبدعين بطابعها وأضفت عليهم مفاهيماً جديدة جعلت من الفنانين العرب وخاصة السوريين منهم يتقدمون في رسم الأيقونة حيث أول من رسم الأيقونة سوري وأخذت عنه في اليونان ثم انتشرت في أوروبا.
وقد خشي أصحاب بعض المذاهب من بعض المفاهيم الإبداعية والفنون بأشكالها أن تدعو إلى الوثنية والارتداد أو مشاركة الله في خلقه بسبب بعض الأفعال مثل: "صنع" "شكّل" "صوّر" وهي أفعال مرادفة جميعها للفعل "خلق" والله هو الخالق والمصور الوحيد خصوصاً إذا تزامنت مع تراجع الإيمان وقصور الوعي والابتعاد عن العبادة.
وقد تميز الفن التشكيلي الإسلامي عن الفنون التشكيلية العالمية بعدة صفات يكاد "الرقش العربي" و "الأرابيسك" أكثر نتاجات هذا الفن تعبيراً عنه وتجسيداً لفلسفته، حيث امتدت هذه الإبداعات بين الزخرفة العفوية إلى الرقش الإبداعي، وقامت على فلسفة جمالية تنزع إلى التحرر بشكل مستمر من الدلالة المحددة نحو التعبير المجرد والمطلق ذلك أن الفن الإسلامي يخضع لقوانين روحية يحكمها المفهوم الأزلي "الله" ومفهوم فناء الأشياء الحية والجامدة بالوجود الأزلي ما نسميه الوحدانية.
كما أن الفنان في نظرته العقلية والحسية يختلط لديه مفهوم الأشياء الجزئي مع الكلي وإن الرؤية الفنية والخلفية الفكرية الروحية حددتا شكل الفن الذي تميز عن غيره من الفنون وحمل خصائص ثابتة، لخشية الفنان أن يضاهي الله في مقدرته على التكوين والتصوير، حيث بقيت هذه الخصائص حتى عصر الانحطاط الذي استكان الفنان فيه إلى مستوردات الفن والثقافة... ورغم ذلك كان للفنان العربي المسلم حريته المطلقة في إنتاج الفنون الإسلامية، كما قال الناقد غريبار: "كان للفن العربي في بداية الإسلام إمكانية نمو لا حدود لها... مما يعطي فكرة عن خاصية الفن الإسلامي في عهد تكونه وهي الحرية فليس هناك بداية وليس هناك نهاية وليست هناك حدود أخرى سوى إرادة الفنان". وقال الناقد جاك بيرك: "يبدو الرقش العربي مرتبطاً معبراً بكنيته العربية". وأيضاً أضاف الناقد غريبار: "ليس الرقش العربي مجرد زخرفة... يبدو وقد أُخضع كلياً لمبادئ تجريدية هي في قمة جميع مراتب التعبير الجمالي الإسلامي...".
والفن العربي سواء كان خطاً أو هندسة أو نباتياً "الرمي" أو "توريقاً" فإنه يقوم على خلفية روحية تقوم على الوجد المتعالي، ففي الصورة الهندسية الإشعاعية نرى صورة الكون في نسيج متشابك يعطي معنى وحدة الوجود في ذروته المتمثلة بالخالق (هو الأول والآخر)، فالخيوط تنطلق من أشكال نجمية أولية ذات معاني روحانية وفلسفية تسعى إلى الله بالصورة النباتية بصورة مكرورة تسبيحا مستمراً لا بداية له ولا نهاية، والرقش (الزخرفة) عمل رصين يتجه بكيانه إلى الله تعالى، حيث يقوم الرقش الهندسي على فكرة سرمدية النسيج الوميضي وإن الله سيد الكون هو مصدر هذه السرمدية ويتمثل برمز صوفي كشكل نجمة خماسية أو سداسية أو ثمانية أو مضاعفاتهم.
وبالتالي فتجريد الرقش العربي هو تعبير عما هو روحاني وقد يختلف عن التجريد المعاصر في شكله ومضمونه كما يقول الناقد "بريون". وقد شاب الفن والإبداع العربي ركوداً في العهد التركي حيث قال الفنان هوراس فرنيه:
"أيها العرب الأعزاء إنكم عندي على ما يسبح في أجسادكم من قمل وبراغيث أفضل ممن يحكمونكم من أتراك يفوح من أردانهم العطر فهم غير جديرين بحكمكم".
علماً أن السوريين منذ عصر الفينيقيين ازدهرت لديهم الفنون وعرفت سوريا بتجارة الأقمشة المزخرفة والمطرزات وفي العهد الروماني واليوناني انتقل هذا الفن من سوريا إلى أوروبا مع الصليبيين واشتهرت الشام بصناعة المنسوجات وزخرفتها بأشكال الطيور والزهور والكتابات والخطوط والخزف والفخار وأطلق اسم دمشق على الأواني المزخرفة بزخارف ذهبية وعلى بعض الأقمشة.
كما عرف السوريون الوشم والوسم والحنة وكل أنواع الفنون الشعبية.
ونستطيع القول مما سبق أن الإبداع والخلق حالة ملازمة للإنسان لأن الابتكار إحدى وسائل التعبير عنده فهو منذ ما قبل التاريخ يرسم ويعبر ويبدع والإنسان العربي مبدع بالفطرة وانتشار العقيدة الإسلامية أضاف آفاقاً روحانية وأشكالاً فنية أغنت الحضارة الإنسانية وخاصة بالمنمنمات والزخرفة والخط والعمارة والهندسة وغيرها الكثير.
ولكن ضعف النقد أو النظرة الدونية التي تعامل بها النقاد والباحثون مع الفن التشكيلي وخاصة مع التصوير الشعبي ساهم في تدهوره إضافة إلى أخذ الآلة في كثير من الأماكن دور الرسام.
على عكس المجتمع الغربي الذي عزز النقد فيه مدارس الفن وأساليب الفنانين وانتشار أعمالهم وشهرتهم.
أما بالنسبة لتأثير التيارات الفنية على المبدع العربي "وهي المدارس الفنية الغربية المعروفة – الكلاسيكية – الواقعية – الانطباعية – الواقعية التعبيرية – الوحشية – السيريالية - التكعيبية – التجريدية – المستقبلية - وغيرها"، فالسؤال المطروح دائماً وفي كل المناسبات:
هل نأخذ من التيارات العالمية أو نرفضها أو نتناولها باعتدال وحرص؟ وهل هذه المشكلة قديمة أو حديثة؟
وبالعودة إلى تاريخ العرب نلاحظ أنهم واجهوا المشكلة نفسها وأخذوا من تراث وحضارة الإغريق ولكنهم لم يكونوا معاصرين لهم واعتمدوا على أفكار ونظريات كونية شاملة ألا وهي الأديان السماوية وقد استطاعوا الانتقاء من هذه الحضارة ما يخدم تراثهم، بينما تاريخ العرب المعاصر يأخذ من شعب معاصر يُخشى من تغلغله الحضاري في الكيان العربي وامتداده السياسي والثقافي والخشية الأكبر من تطوع العرب تلقائياً للأخذ عن هذه التيارات والذوبان فيها على حساب الشخصية الفنية والحضارية العربية.
وقد كان هناك رأي للفنانين التشكيليين العرب في بداية القرن الماضي أن: الفن لغة عالمية كالموسيقا ولا ضير من الرسم على غرار المدارس الغربية، وبهذا الرأي غلبت عليهم النزعة الغربية.
وكذلك تأثر الأدباء والمثقفين والإعلاميين وإن كان الأدب يحتاج إلى ترجمة ليصبح لغة عالمية.
وهذا يعني أن التيارات الفكرية والفنية الغربية غزت أرضنا وتسربت من كل النوافذ وصرنا في الغالب مواكبين لها.
وغدت علاقتنا المبتورة بتاريخنا وتراثنا كفيلة بتركنا في مهب الريح وبظروفنا الحالية لم يعد بمقدور شعب أو دولة أن تغلق الباب أمام العالمية التي تؤكد نفسها يوماً بعد يوم.
ونرى ان على مبدعينا أن يعودوا إلى التراث من خلال الإطار المحلي لإثبات وجودنا في الإطار العالمي وأن لا نخسر مجتمعاتنا ونتمثل التراث كنقطة انطلاق إلى الإبداع مع مراعاة السرعة وعامل الزمن دون تعثر أو تقوقع أو توقف وهذا يجب أن يترافق مع الوعي الثقافي للمتلقي لكي يقف متأملاً أمام العمل الفني بعيداً عن التشويش ويبدأ بتذوق رحيق الإبداع والألوان والمعاني وارتشاف النشوة المطهرة للروح والنفس البشرية لأن العمل الفني يجادل بصمت ويتكلم بمحبة وبمعانٍ لطيفة وعذبة ويدعو إلى التأمل.
مما سبق نستنتج أن الفن يجب أن لا يحصر في مكان أو زمان أو عمر فما دمنا أحياء علينا أن نتعلم العلوم والفنون لأنها عنوان الحضارة، وكما قال سقراط وكان يتعلم الموسيقا في كبره عندما سئل: ألا تستحي يا شيخ أن تتعلم الموسيقى على كبر؟ فأجاب أقبح من ذلك أن أكون جاهلاً.
وأخيراً نستنتج أن النواميس والأديان في المجتمعات العربية كان لها بعدها الفكري والروحي بل كانت عصب الإبداع وعمق الوجد الروحي للفنانين، وهذا ما لم يتوفر في أوروبا، فعندما أخذ الإمبراطور الروماني النصرانية قالوا: "تروّمت النصرانية ولم يقولوا تنصّرت روما".