أبحثُ عن الدّيمقراطيّة الضّائعة

 إيمان أبو شاهين يوسف 

منذ أن كنت طفلاً صغيراً وأنا أدرس في الكتب الدراسيّة عن جذور الدّيمقراطية، التي ترجع إلى ما قبل الميلاد لأكثر من خمسمئة سنة، وأنها تعني حكم الشّعب للشّعب، وأن أثينا هي أوّل من مارست هذا النّوع من الحكم. 

وقد أكّد على ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي حاول شرح هذه الديمقراطيّة، ليبيّن الأوجه الإيجابيّة في هذه التّجربة، كما يبيّن نقاط الضّعف السّلبية التي كانت السّبب في زوالها من النّظم السّياسيّة في المدن اليونانيّة، وعودة الحكم الاستبدادي من جديد رغم محاولات المشرّع ورجل القانون الأثيني سولون بوضع عدة مواد قانونيّة لتعديل ما فسد من هذه الدّيمقراطيّة والحفاظ عليها.. أيضاً رغم قوة عهد الحاكم بريكليس الذي تميّز بحماية حقّ التّعبير عن الرّأي ودعمه، والذي استمرّ في الحكم ما يقارب الواحد والثلاثين عاماً (460-229) قبل الميلاد. 

 الدّيمقراطيّات القديمة التي نشأت في دويلاتٍ صغيرة سُمّيت أحياناّ بالدّولة المدنيّة، تراجع وجودها في ظل الامبراطوريات الكبيرة، إلاّ أن العصور الوسطى التي تميّزت بوجود فلاسفة التّنوير (هوبز، جون لوك، كانط.، روسو..) الذين ساعدوا بأفكارهم التي تدور بمعظمها  حول القيم وحقوق الأفراد، على التّقدم السّريع باتجاه الدّيمقراطيّة من جديد، حيث أدّت فيما بعد إلى ازدهار الدّيمقراطيّة الّليبرالية خصوصاً في الغرب. وما يتحفنا التّاريخ به أيضاً هو قصّة الثّورة الصّناعيّة في أوروبا عام 1789، وقيام النّظام الجمهوري بعد القضاء على النّظام الملكي، وكيف انتشرت ارتداداتها في كلّ دول العالم تقريباً، لتتحوّل بمعظمها نحو النّظام الدّيمقراطي. 

وقد اختلف هذا النّظام قليلاً بين دولةٍ وأخرى، بحيث نجد الدّيمقراطيّة الّليبرالية والدّيمقراطيّة التّمثيليّة التي يكون فيها حكم الشّعب غير مباشر أي عبر ممثلين عنه ينتخبهم عبر الاقتراع، لهذا تبلورت بعض الأسس لقيام النّظام الدّيمقراطي والتي تتمحور بالعدالة، والمساواة، وممارسة الحرّيات وخصوصاً حرّية التّعبير عن الرّأي، والتّمتع بالحقوق والقيام بالواجبات.

 السّلطة في النّظام الدّيمقراطي لا تكون بيد مرجعيةٍ واحدة سواء كانت شخصاً أو جماعة. بل يعمل هذا النّظام  بمبدأ فصل السّلطات الذي وضعه المفكر الفرنسي مونتسكيو.

 الفصل بين السّلطات يعني بأن توزّع السّلطة إلى فروعٍ أو سلطات، وكلّ سلطةٍ منفصلةٍ ومستقلة في صلاحياتها ومجالات عملها عن الأخرى، مع حقّ كلّ منها بممارسة حق الرّقابة ومحاسبة السّلطة الأخرى وذلك بحسب الشّروط القانونيّة.

 تقسم السّلطات إلى: سلطةٍ تنفيذيّة، سلطةٍ تشريعيّة، وسلطةٍ قضائيّة. الحكم في النّظام الدّيمقراطي هو للقانون، والدّستور هو القانون الأعلى في الدّولة الذي يجب أن تتماشى معه جميع القوانين والأحكام، كما يجب أن يخضع له جميع المواطنين ويحترموا أحكامه في جميع أدائهم وتصرفاتهم. 

الدّستور هو الذي يحدّد المبادئ التّوجيهية للدولة، كما يحدّد القواعد الأساسيّة لشكل الدّولة، وشكل الحكومة، ونظام الحكم، وينظم السّلطات العامة من حيث التّكوين والاختصاص والعلاقات بين السّلطات، وصلاحيات كلّ سلطة، وحقوق وواجبات الأفراد الأساسيّة والجماعات، ويحدّد الضّمانات لها تجاه السّلطة.

 ولأن النّظام الدّيمقراطي هو جوهرة الأنظمة على الإطلاق من وجهة نظر الأمم المتّحدة لذلك وضعت عدداّ من المواثيق التي تحمي وجوده، كما ضمّنت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القيم والمبادئ التي يجب اتباعها من أجل مشاركة أكبر، ومساواة، وأمن، وتنمية بشرية، وبيئة تحترم حقوق الإنسان والحريّات خاصةً حرّية التّعبير عن الرأي، والعدل، والقضاء على التّمييز العنصري. 

كما ضمّن العهد الدّولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة شرح أوفى لهذه الحقوق والحرّيات، ووضع الأساس القانوني لمبادئ الدّيمقراطية في القانون الدولي.. كما ركّز على حرّية التّعبير عن الرّأي، والحق في التّجمع السّلمي، والحق في تكوين الجمعيات، والقضاء على كافة أشكال التّمييز العنصري ضد المرأة.

ودأبت الجمعية العامة للأمم المتّحدة على اتخاذ قرارٍ كلّ سنة منذ عام 1988 يتعلق بجانب من جوانب الدّيمقراطية.. واعتبرت أن الحرّية واحترام حقوق الإنسان ضروريّة للدّيمقراطية...وقد أكّد على ذلك منذ نشأته في العام 2006 "مجلس حقوق الإنسان" من خلال عدة قرارات، وأكد أن العلاقة وثيقة بين الدّيمقراطية وحقوق الإنسان...كما قدّمت الأمم المتحدة المساعدة الانتخابية للكثير من الدّول من أجل بناء القدرات التي تعزّز البيئة السّياسية العامة وتحقق فيه الدّيمقراطية.

 وموّل صندوق الأمم المتحّدة للديمقراطية المشاريع التي تمكّن المجتمع المدني، وتعزّز حقوق الانسان، وتشجّع الجميع على المشاركة في العمليات الدّيمقراطية. 

وفي عام 2015 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التّعليم من أجل الدّيمقراطية، ويوم 15 أيلول من كل عام هو اليوم الدّولي للدّيمقراطية.. هذا ما قرأناه في الكتب الدراسية التي علمتنا أيضاً بأن السّبب الأساسي لقيام منظمة الأمم المتحدة (1945) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هو فشل عصبة الأمم المتحدة في الحفاظ على الدّيمقراطية وحماية دول العالم من النّزاعات والحروب، والحفاظ على علاقاتٍ جيدة بين الدول، وتعزيز الحوار فيما بينها، وحل النّزاعات بالطرق السّلمية، وتعزيز التّنمية الاقتصادية والاجتماعية، من أجل نشر ثقافة السّلام والحرّية والعدالة والأخوة والمساواة بين جميع أبناء البشر. وكانت هذه الأهداف هي المبرّر الأساسي لقيام منظمة الأمم المتحدة، وقد أضافت على ذلك بأن مقاومة الظّلم والاستبداد أمرٌ مشروع، كذلك حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها.. أهداف سامية ستحقّق للبشرية السّعادة والرفاهية، وسوف تُعلي من شأن الإنسان والإنسانية.  فلتطمئن القلوب، وتهدأ النّفوس ويتفرّغ العقل البشري للعلم والإبداع. هذا ما صدّقناه وحلمنا به، ورحنا نتفاخر ونبني الأحلام التي استفقنا منها بصفعةٍ قاسية أدخلتنا في دُوار جعلنا نرى الألوان معكوسة والحقائق منقوصة.

 الحروب مشتعلة في مختلف أنحاء العالم، هذه الحرب الكورية (1950) التي أصبحت منظمة الأمم المتحدة طرفاً مباشراً فيها لمصلحة المعسكر الغربي.. وهذه حرب فيتنام (1955) التي خاضتها أميركا ضد فيتنام، حرب الخليج...، الغزو الأميركي للعراق (2003)، الغزو الروسي لأوكرانيا (2022)، الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1948 إلى اليوم، أي بدءاً من عملية حيرام التي نفذتها العصابات الإسرائيلية وراح ضحيتها 93 مواطناً من بلدة حولا، إلى الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على جنوب لبنان واجتياح 1978 الذي حضّر للعدوان الأشمل الذي حصل عام 1982، حيث حصلت مجزرتا صبرا وشاتيلا بحق الشّعب الفلسطيني (1982).  واستمرّ إجرامه في لبنان حيث نفّذ مجزرة قانا التي قصف فيها الأطفال والنساء وهم مختبئون في خيم الأمم المتحدة، وقام  بحرب تموز (2006) على لبنان ودمّر البنية التّحتية وقتل المئات من اللبنانيين.

  لم يكفهم  المذابح التي ارتكبوها بحق الشّعب الفلسطيني بدءاً من مجزرة بلدة الشيخ (1947)، إلى  مجزرة دير ياسين (1948)، ومجزرة قرية أبو شوشة (1948)، ومذبحة الطنطورة (1948)، ومجزرة قبيه (1953)، ومجزرة قلقيلية (1956)، ومجزرة كفر قاسم ( 1956)، ومجزرة خان يونس ( 1956)، ومجزرة المسجد الأقصى (1990)، ومجزرة الحرم الإبراهيمي(1994)، ومجزرة مخيم جنين ( 2002). كلا، لم يكفهم قصف آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلوا ولم يُسمع أي صوت يعترض. فلم تهتزّ الدّيمقراطية، ولم تشعر الأمم المتحدة بأي أمر غير طبيعي، بل استمرّت بالتنظير وإعطاء الدروس والنصائح في علم الدّيمقراطية، وكأن من يُظلم ويٌقتل ويحرق وتُدمر بيوته وأوطانه، ليس من الناس التي تراهم منظمة الأمم المتحدة، وربما لا تحسبهم من البشر الذين تعمل من أجلهم وتروج لهم وتطالب بحقوقهم. 

واليوم يشهد العالم جميعاً مجزرة غزّة. غزّة العزّة، غزة التي تباد، غزّة التي يقتل أطفالها ونساؤها وشيوخها، غزّة التي أزعج وجودها الاحتلال الصهيوني، فقرّر إبادة شعبها وهدم معالم وجودها.

 طائراته تقصف القنابل كزخات المطر على أبناء غزة وأطفالها. وتهدم المستشفيات والمدارس على من فيها، حتى أنها لم ترحم أطفال الأكواريوم الذين قطعت عنهم الأوكسجين ليموتوا خنقاً.. شرّدت العائلات، ويتّمت ما تبقى من أطفال، قتلت أمهاتهم وأجدادهم، وشوّهت أجسادهم.. الدّم يسيل في كل مكان، الجوع ينهش بأجساد المحاصرين بدون ماء و كهرباء وطعام  ودواء.. البيوت مهدّمة على ساكنيها.. الأنين يرتفع صوته من تحت الإنقاذ، وأصابع الشّهادة ترتفع من تحت الأنقاض.

 ألم ترى منظمة الأمم المتحدة مشاهد الموت والدمار؟ ألم تسمع منظمة الأمم المتحدة نحيب الثكالى والحزانى؟ ألم ترى صور الأطفال الذين تمزقت أجسادهم  وتناثرت على أحجار غزّة المهدمة؟ ألم ترى مباني غزة التي سوّيت بالتّراب؟ إذا كان الضّمير الإنساني قد توقّف، أفلا يوجد مشاعر وأحاسيس إنسانية؟ أين الدّيمقراطية التي تنادي بها، وتسوّق لها هذه المنظمة؟ أين العدل والعدالة؟ أين الحق بالفرح والحياة؟ أين المساواة وعدم التّمييز العنصري؟ أين حق الشّعب بمقاومة الظّلم والاستبداد؟ أين قرارتها لوقف هذه الإبادة الجماعية؟ أين هي منظمة الأمم المتحدة من هذه الجرائم التي ترتكب بحق الفلسطينيين؟ من يلجم إسرائيل عن جنونها وغطرستها، أليس هذا هو دور مجلس الأمن؟  أم إن مجلس الأمن ممنوع من جرح مشاعر إسرائيل، حتى ولو أبادت كل الشعب العربي؟ هل من أحد يسأل لماذا تعتبر إسرائيل الطّفل المدلّل لمنظمة الأمم المتحدة؟ الكلّ يعرف الجواب. 

 ألم تصدقوا؟ إذن أجيبوا أين هي الدّيمقراطية التي تنادي بها منظمة الأمم المتحدة وكيف اختفت؟ من خطفها؟ أين رماها؟ هل قتلها؟ وكيف أخفاها؟ إذا كان ما زال عندكم أمل بوجودها، هيّا تعالوا لنفتش معاً عن هذه الدّيمقراطية الضّائعة.

 المراجع :

- الديمقراطية وحقوق الإنسان. د. محمد الجابري 

- الديمقراطية العالمية – نادية مصطفى – دار النشر للثقافة والعلوم.

 - مجموعة من صحيفة النهار. 

-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

-دور هيئة الأمم المتحدة في النزاعات الدولية. – حميد الخطيب

 - موقع الجزيرة الالكتروني

 - المجازر الإسرائيلية- مكتبة نور الالكترونية pdf 

- مشاهد تدمير غزّة وقتل أطفالها  - التلفزيون المحلي والعالمي.